7 أكتـوبر.. عند الضحية والجلاد
خسـرت «إسرائيل» حرب 7 أكـتوبر منذ يومها الأول. خسـرتها عسكريـا واستخباراتـيـا وسياسيـا ونفـسيـا لـتـخـسـر معها هـيـبتها وصورتـها عن نفسها كـدولـة قـويـة ذات جيـش جـرار لا يـقـهـر. بـغـتـتـها المقاومـة، على حيـن غـرة، وهي سادرة لا تبالي - من فـرط أوهـام القـوة التي ركـبتـها - بما يدور داخـل ذلك السـجن الكبير المسـمى قطـاع غـزة؛ وبما تـعـده لها مقاومـة حسبـتـها إسرائيل وجـلـة منها، أو حتـى مرهـقة لا تــقـوى على رفـع الرأس بعد حـروب عليها موجـعة منذ خمسة عشر عاما.
Table of Contents (Show / Hide)
ولأن لأوهام القـوة أثمـانا باهظـة، في كثـير من الحالات التي يستـفحل فيها أمـرها، كذلك رتـبت تلك الأوهـام غرامات ثقيلـة على «إسرائيل» حين أخذتـها الفـجأة من ضربـة لم تتوقـعها؛ ضربة موجعـة شلـت قدرتها على الرد وأفـقـدتـها التـوازن إلى الحدود التي ما استطاعت فيها أن تـخـفـي ما يعـتمل داخل أجهزتها الأمـنيـة والاستخباريـة والعسكريـة، فضلا عن قياداتها السياسيـة، من ضروب الفوضى والتـخبـط.
لم تكـن البـغـتـة عاديـة، هذه المـرة، وقابلـة للاحتـواء من قـبل المبغـوت (= «إسرائيل») لأن المقاومة توسلت فيها أدوات وطرائـق أشـد فـتـكـا ممـا درجـت عليه، قـبلا، من إطـلاق للصــواريـخ والقـذائـف على المدن والمستوطـنـات الإسرائيليـة في فلسطين المحتـلـة.
فـفي هذه الجولة غـيـر المسبوقة كانت الكـلمة للاشتباك المباشر مع الجنود والمستوطنين المسلحيـن، ولاقـتياد العشـرات من الأسرى إلى قطاع غـزة، وبالتالي، لإيقـاع أضخم الخسائـر بدولـة الاحتـلال وإذاقـتـها من الكأس عيـنـها التي ظلـت تـجرع الشعب الفلسطـيـني مرارتها منذ ثـلاثة أرباع القـرن.
وما حصل ذلك من باب انتـقام من دولة قـاتـلة على أفعال قـتـل جماعـي ارتكبتـها وما بـرحـت ترتـكـبـها، فحسب، بـل أيضـا - وأساسا - من أجل تلقين جيشها وقيادتها السياسيـة درسا قاسيا لن ينساه فيـهما أحـد يكون بمثابة ردع قـوي للعـدوانيـة الإسرائيلـيـة يـكـفـها عن شعب فلسطين أو يـلجـم اندفاعـتـها الهوجـاء في أقـل القليل. ولقد كان الدرس حادا باعتراف قادة كـيان الاحتلال وألسـنـتـه الرسميـة والصحـفـيـة.
ما كانت البـغـتـة عاديـة لأن هزيمـة «إسرائيل» أتـت مروعـة؛ فـلقـد سبق وأن تجـرعت طعـم الهزيمة من غير أن تـبـلـغ حد الشعـور الجماعي بالذل والمهانـة: كما هـي الحال اليـوم.
نعـم، تـلـقـت الهزيمـة أربـع مـرات في نصف القـرن الأخير: مـرة من الجيوش النـظاميـة العربيـة، في حـرب عام 1973، ومـرات ثـلاث من المقاومات الشعـبيـة المسلـحة: في مايو 2000 حين جـلت عسكـريـا من جنوب لبنان تحت وطأة ضربات المقاومـة؛ وفي حرب تـمـوز/يوليو 2006 في لبنان؛ ثم في الداخل الفلسطيـني في 7 أكتوبر.
نعم، ما كانت عاديـة لأن الحرب الخاطفـة وقـعت هـذه المـرة، ولأول مـرة في تاريخ الصراع العربـي- الصهيونـي، داخل فلسطين المحتـلـة وفي قلب الثـكـنـات العسكريـة والمستعـمـرات الإسرائيـليـة فبـدت وكأنها تـحـدث الانعطـافـة التـاريخيـة الكبرى في ذلك الصـراع، ناقـلة مسـرحـه إلى الداخل الفلسطيني المحتـل بعد أن كانت دولة الاحتلال تحتكـر- ولعشرات الأعـوام - امتياز المبادرة (في ذلك الصراع)، وامتـياز الهجوم على أعدائها خارج حدود فلسطين.
لـقـد كانت الانتفاضتان الشعـبيـتان للعام 1987 والعام 2000 وحدهما كافيـتـيـن لكي تكونا عسيرتـيـن على «إسرائيل»؛ كانتا شـديـدتي الإرهاق والاستنـزاف لقواها؛ وشـديـدتي التـمريغ لهـيـبتها وسمعتها في العالم ولدى جمهورها الداخلي، فكيف بحرب خاطفة انهارت أمام افـتجائــها يـقـظـتـها الأمنيـة وانـثـلمت شكـيـمتها العسكريـة.
بل إن عشرات من مقالات كـتابها جـلـدتـها على صفحات «هاآرتس»، و«يديعـوت أحرونوت»، و«معارف»، و«إسرائيل اليوم»، ولم يـخـل بعض نقـدها اللاذع من مفـردات الشماتـة؛ بل وذهب بعض كتـابها إلى نـعـي بقائـها والجـزم بأن هذه الحرب هي بدايـة نهاية الدولة والمشـروع الصهيوني.
وما استطاعت دولة الاغتصاب أن ترد على تحـدي المقاومة في الميدان، بل هرعت إلى وسيلـتها المفضـلة: الضرب من بعيد - ومن الجـو خاصـة - لئلا تغرق في النزيف أكثر.
ولأن إسرائيل دولة تحترف القـتـل، ولا شيء غير القتـل، فقد أوغلت في سفك دماء المدنيين في غزة المحاصرة غير آبهـة بقوانين الحرب، وبمن يذكـرونها بها؛ ومحـت من الوجود أحياء سكـنيـة دفـن المئـات من الشهداء تحت أنقاضها؛ وقطعت الكهرباء والماء والدواء والغـذاء والوقـود عن مليونيـن من البشر؛ وأمعنت في اقـتـراف جريمة التهـجيـر القسـري لهم.
أما أخلاق القـتـل، التي تحلـى بها الاحتلال، فأفصـح عنها - ببلاغـة وقحـة - وزير الحرب المـدعـو يواف غالانت بوصفه الفلسطينـيـين بـ «حيوانات بشريـة»!
كان ذلك عدوانا وحشيـا ونازيـا غاشمـا على قطـاع مـحـاصـر مغلوب على أمره أمام طوفان القـذائـف المنـهمـرة عليه كالسيـل. الحرب الوحيدة الحقـيقـيـة كانت تجري في مكـان آخر حيث يتواجـه طرفـاهـا؛ تجري داخل الجوار المحتـل، في المستعمرات الإسرائيليـة، حيث مئـات المقاتلين الفلسطينييـن لا يزالون يشتبكـون هناك مع جنـود الاحتلال.
من النافـل القول: إن التـوازن مخـتـل، من جهة القـوة الناريـة والإمكانـيـات، بين المقاومة والاحتلال وإن حجم الأضرار سيقع، بالتالي، على الشعب الفلسطيـني في غـزة: خاصـة مع اشتداد خناق الحصار الصهيـوني عليه والقصـف الجوي والمدفعـي المتعـمـد للمناطـق السـكـنـيـة.
ولكن ثـقـل كـفـة المقاومـة في مـيزان الإرادات أعلى وأكـبر؛ وهو ما يفسـر ليس فقط حالة صمودها في وجه البربريـة العـسكريـة الإسرائـيليـة، بل وإنجازاتها العسكـريـة اليوميـة: من قصـف المـدن والمستـعـمـرات إلى استمرار الاشتباك مع قوات الاحتلال في مواقـع عـدة مجاورة للقطاع.
لكن كنزها الاستراتيجـي الأكبر الذي تملكه في هذه الحرب يـكـمن في ما بين أيديها من أسرى إسرائيلـيـين؛ هؤلاء الذين سيكونون ورقة قـوة في أي معركة سياسيـة قادمة لتحرير أحـد عشر ألـف أسيـر فلسطيني من سجون الاحتلال.
في النـهايـة؛ في نهاية النهايـة، في دفاتـر التاريخ، وفي الذكـرى الجمـعـيـة لكـل من الضحيـة والجـلاد، ستـظـل 7 أكتـوبر عنوانا للإبـاء والشـموخ والانتـصار، عند المقاومـة وشعب فلسطيـن والأمـة وأحرار العالـم..؛ وستـظـل عنـوانـا للعار والخيـبـة والانكسـار عند احتـلال ذلـت عـنـجهـيـتـه كما لم يـحـدث قـبـلا.
*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي