رسالة غضب إلى الرئيس بايدن
السيد الرئيس، هذه رسالة من مواطن تونسي احترف الكتابة منذ أكثر من نصف قرن، وانخرط في حركة حقوق الإنسان، وتوفرت له الفرصة لزيارة بلادكم في أكثر من مناسبة، وكنت أدرك خلفيات الانحياز الأمريكي إلى الكيان الصهيوني، لكني مع ذلك تابعت بدهشة وغضب تصريحاتكم ومواقفكم منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى".
Table of Contents (Show / Hide)
لقد تصرفتم بشكل مشين ومستفز. من شأنكم كرئيس للولايات المتحدة أن تتضامنوا مع الدولة العبرية، وقد سبق منذ فترة طويلة أن صرحتم بأنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب اختراعها، لكن احترموا عقولنا ولا تعتبر الآخرين بمن فيهم مواطنوك أغبياء لا يفقهون.
تبنيتم كذبة قطع عناصر حماس لرؤوس الأطفال، وادعيتم بأنكم رأيتم الصور الدالة على ذلك، ورغم تراجع إدارتك عن هذه الرواية الإسرائيلية السخيفة تمسكتم بتكرارها، كما واصلت القول بأن إسرائيل هي الضحية والمقاومة هي المعتدية.
وعندما قُصف مستشفى المعمداني، ادعيتم بأن الطرف الإسرائيلي بريء من هذه المجزرة، وأن مرتكبيها هم "الآخرون"، أي حماس، رغم أن الجميع يعلمون بمن فيهم صحفيون إسرائيليون بأن الجيش هو الذي ارتكب عن سبق إصرار هذه الجريمة البشعة.
ورغم أن الأغلبية الساحقة من شعوب الأرض تطالب بتمكين سكان غزة من الماء والطعام والدواء والبنزين، أصرت إدارتكم على ربط ذلك باستسلام المقاتلين، رغم أن القانون الدولي يعتبر حرمان المدنيين من هذه الحقوق الأساسية جريمة حرب.
ورغم أن عدد ضحايا القصف العشوائي للغزاويين الأبرياء تجاوز 7 آلاف شهيد، 40% منهم أطفال، لم تجرؤوا على مطالبة صديقكم الحميم نتنياهو بوقف إطلاق النار، وتمسكتم بالقول؛ إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها! ولم تعدلوا نسبيا موقفكم إلا بعد استفحال القتل في الأبرياء.
تأكد أيها الرئيس أن هذه العنجهية من شأنها أن تؤدي بدولة قوية مثل أمريكا إلى الضعف والعزلة، وأن تدفع بأغلب الشعوب نحو كراهية دولتكم، والتمرد على نظام دولي تتحكمون في كثير من مفاصله بإدارة تحمل كل هذا السوء، وتعادي قيم العدالة وحقوق الإنسان والقيم الدينية والإنسانية بهذه الطريقة.
وبما أن داخل أمريكا هناك عقلاء وأصحاب ضمائر حية، اضطر بعضهم إلى معارضة هذا المنهج العاطل والمخيف الذي اعتمدتموه.
فحالة الإحباط التي اتسعت رقعتها داخل وزارة خارجيتكم، بسبب إهمال "نصائح خبرائكم" وإصراركم على دعم العملية العسكرية الواسعة في غزة. ومن غير المستبعد أن تتوالى هذه الاستقالات لأن سياستكم تراجعت على "المستوى الأخلاقي" كما ورد في استقالة جوش بول بسبب قبول دعم بلاده للمجهود الحربي الإسرائيلي. وانتقل هذا التمرد إلى موظفي الكونغرس الذين طالبوا بوقف القصف في غزة.
تفاءل الكثيرون بفوزكم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ نظرا لكون منافسكم ترامب كان أشبه بالثور الإسباني في حالة هيجان قصوى، وعلق الكثيرون آمالا واسعة عليكم نظرا للشعارات التي رفعتموها من أجل دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، خاصة في المنطقة العربية.
لكن مع هذا الاختبار القاسي، تجدون نفسكم وجها لوجه أمام الأمم المتحدة ومختلف منظمات حقوق الإنسان الدولية، وقد تصبح الشخصية المنبوذة أكثر في العالم إلى جانب مجرم حرب نتنياهو.
لا تنس كونكم أعطيتم الأوامر لإجهاض مشروع قرار كان سيصدر عن مجلس الأمن، يسمح بهدنة إنسانية مؤقتة لتقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة!
يمكن أن يتجاهل الرئيس الأمريكي كل هذه الأطراف المناهضة لسياسته، لكن في المقابل كيف يفسرون موقف عشرات الآلاف من اليهود الأمريكيين بمن فيهم أعضاء من المجلس القومي اليهودي الذين نزلوا إلى الشوارع، ونددوا بما يجري في غزة بكل شجاعة، خاصة عندما اندفع المئات منهم واقتحموا مبنى الكونغرس واعتصموا فيه؛ محاولة منهم للضغط عليكم من أجل إيقاف المجزرة؟
قد يكون ما قمتم به جزءا من التكتيك الانتخابي بنية الحصول على دعم اللوبي اليهودي الراديكالي، ووقوف الحركة الصهيونية إلى جانبكم في السباق المحموم من أجل ضمان دورة ثانية، لكن الانقسام أصبح واضحا داخل الرأي العام الأمريكي، حيث بيّنت استطلاعات الرأي تراجع شعبيتكم، وأن أغلبية الأمريكيين ليست مع الحرب، وليست مع منح إسرائيل مزيدا من الدعم.
الأحداث الجارية أكبر بكثير من الحسابات الانتخابية الأمريكية. هناك سعي من طرفي النزاع لإعادة تشكيل معادلات جديدة. نتنياهو وحلفاؤه وفي مقدمتهم البيت الأبيض، يحلمون بشرق أوسط جديد خال من فلسطين.
في المقابل المقاومة تعمل على كسر هذا الطوق الحديدي المضروب حول الفلسطينيين. قد تؤدي هذه الحرب إلى إعادة تشكيل خارطة مختلفة، تسمح بتحالفات أخرى ورهانات أكبر.
المرحلة السابقة استنفدت أغراضها. علينا انتظار ما ستسفر عنه خطة السيوف الحديدية مقابل مبادرة غضب الأقصى، فالحكومة الإسرائيلية ليست واثقة من النتائج، وكل الاحتمالات غير مؤكدة، في حين تستعد المقاومة لمعركة طويلة.
الأكيد أن المشهد غدا سيكون مختلفا، وأن المنطقة دخلت في منعطف تاريخي جديد، تختلط فيه المشاعر وتتصادم فيه الإرادات والأجندات. الأكيد أيضا أن إسرائيل لم تعد تتحكم وحدها في الأحداث وفي الميدان، رغم قدرتها العالية على الانتقام.
أما ما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد أصبحت جزءا من الماضي. في هذا المخاض الجديد والصعب، قررتم أيها الرئيس وضع كل بيضكم في سلة واحدة، والحفاظ على التفوق العسكري لإسرائيل من خلال مساعدتها على تدمير حماس. الأسابيع القادمة ستكشف مدى قدرتكم على إنجاز ذلك، لكن تأكدوا بأنكم تتحركون مرة أخرى ضد العدالة وحقوق الإنسان.
*صلاح الدين الجورشي كاتب وناشط في المجتمع المدني