وتم تثبيت هذا العهد في صحيفة عُلقت داخل جوف الكعبة، مما دفع بني هاشم وبني المطلب -باستثناء أبا لهب- إلى التحصن في شعب أبي طالب، حيث عُزلوا وقُطعت عنهم جميع سبل الحياة. اشتد عليهم الحصار حتى أجبروا على اللجوء لأكل أوراق الشجر والجلود، في ظل تصميم المشركين على منع أي طعام من الدخول إلى مكة. بعد ثلاثة أعوام من المعاناة، نُقضت الصحيفة وفك الحصار، لأن بين قريش من كان مؤيداً لهذا الظلم ومن كان ضده، ونجح الرافضون لهذا العهد الظالم في إلغائه.
كان زهير بن أمية من بين الذين لم يرضوا عن الصحيفة الظالمة، فتحالف مع آخرين لإلغائها. وجَّه كلماته لأهل مكة قائلاً: "يا أهل مكة.. أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة.. القاطعة الظالمة"، وهكذا أيده من كان كارهاً لهذه الوثيقة ونُقضت الصحيفة.
كان حصار بني هاشم في الجاهلية، في الصحراء منذ قرون، لكن الظلم ظل كما هو دون تغيير حتى يومنا هذا، ما يذكرنا بأن التاريخ يعيد نفسه. اليوم، رغم التطورات الحضارية، لا تزال الجاهلية تسكن في نفوس الكثير من البشر. وعلى الرغم من القوانين والمعاهدات الدولية، فإن قانون الغاب هو السائد. ورغم وجود الأقمار الصناعية والقنوات التلفزيونية والكاميرات التي تبث الأحداث مباشرة، إلا أن العالم تخلى عن إنسانيته تجاه غزة، إلا من رحم ربي. فقطاع غزة، من الشمال إلى الجنوب، يعاني من الجوع والألم، مع تهديد المجاعة لآلاف الأشخاص في ظل نقص أبسط الإمدادات الغذائية وإغلاق المعابر من قبل الاحتلال، مستخدماً التجويع كسلاح ضد المدنيين، في جريمة إبادة تحدث أمام أعين العالم.
في قطاع غزة، بعد البحث المضني والجهود اليائسة لإيجاد طعام يسد رمق الجوع، وجد أهل غزة أنفسهم مضطرين للاعتماد على أعلاف الحيوانات إن وُجدت، والتنقيب في الحقول الزراعية بحثاً عن أية خضراوات يمكنها أن تنبت ورقيات. وبينما تستخدم إسرائيل سلاح الجوع ضد أهل غزة بدأت أعداد الوفيات بالارتفاع نتيجة حالات الجفاف أو سوء التغذية إلى جانب انتشار واسع للأمراض المعوية.
"إن لم تقتلك القذائف، قد يفتك بك الجوع"، هذه هي الحقيقة المرة التي يعيشها قطاع غزة، وسط تخاذل وتجاهل دولي فج. لقد وثق الصحفيون عبر عدساتهم عشرات المقاطع التي تعرض مشاهد الاستهداف للمدنيين بالرصاص من الدبابات والطائرات المسيرة. النتيجة؟ شهداء يرتقون وجرحى يسقطون في سبيل الحصول على مواد غذائية بسيطة ككيس طحين أو صندوق من المعلبات. ويتعاظم الوضع سوءاً مع استهداف شاحنات المساعدات نفسها من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى قرارات دولية بوقف إرسال المساعدات إلى الشمال، كما أعلن برنامج الغذاء العالمي.
في الخامس من فبراير/شباط، وثقت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة وتحليلات صور الأقمار الصناعية حادثة بشعة؛ فقد أطلقت قوات الاحتلال النار على قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة كانت في طريقها إلى شمال القطاع، المنطقة التي تقبع تحت شفا مجاعة محدقة، تكشف الوقائع أيضاً عن مأساة إنسانية تتفاقم، حيث يعاني واحد من كل 6 أطفال في شمال غزة من سوء التغذية الحاد، وفقاً لما أبرزه تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف).
ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي جريمة ممنهجة تستهدف تهجير سكان غزة وتفكيك النسيج الاجتماعي الداعم للمقاومة الفلسطينية. هذا العمل يأتي في ظل استمرار المقاومة في توجيه ضربات للاحتلال، رداً على جرائمه ضد المدنيين. وأمام عجز ترسانة الاحتلال عن تحقيق أهدافها، يلجأون إلى الوسيلة الأكثر بساطة ووحشية: شن حرب الإبادة ضد المدنيين.
ما يثير الاستغراب والأسى في آن معاً هو موت الضمير العالمي وتجاهله لما يحدث. يبدو الأمر لا يُصدق كيف تعجز دول بكاملها، بقادتها وجيوشها، عن وضع حد لتجاوزات هذا الاحتلال وهمجيته. هذا العالم الواسع ضاق عن استيعاب قطاع غزة ومساعدته. وكأن ألم الجوع، الحرمان، والقصف، كافيان لأهل غزة، فأضاف العالم إليهم ألم الخذلان. دموع الأطفال وأنين الرضع، الذي انقطع بموتهم جراء الجفاف لعدم توافر الحليب، لم تكن كافية لإيقاظ الإنسانية في الناس. صرخات الاستغاثة ومشاهد إبادة عائلات بأكملها لم تحرك ساكنًا في قلوب العالم. واليوم أقول لهؤلاء الذين تخلى ضميرهم عنهم، يجب أن يُقام مأتم وعويل على ما فقدوه من إنسانية.
المصدر: عربي بوست