تصاعد خطر المستوطنين وانفلات إجرامهم
أعادت "محرقة حوارة" في 26 فبراير/شباط الماضي إلى الأذهان سلسلة من الجرائم المروعة، التي ارتكبها المستوطنون ضد المدنيين الفلسطينيين، وقرعت جرس الإنذار حول الخطر الذي يمثله المستوطنون، ليس على حياة الأفراد وأمن القرى الفلسطينية التي يستهدفونها فقط، إنما على مآلات الصراع وعلى مستقبل وجود الفلسطينيين على أرضهم، في ضوء توظيف اليمين الحاكم لجماعات المستوطنين المسلحة، ضمن خطته لحسم الصراع مع الفلسطينيين.
Table of Contents (Show / Hide)
تاريخ المستوطنين حافل بجرائم شبه يومية، تشمل قطع طرقات على الفلسطينيين، وحرق المزروعات والسطو على المحاصيل الزراعية والماشية، وتسميم آبار الشرب، والسيطرة على الأراضي، وترويع الرعاة والمزارعين لإبعادهم عن أراضيهم. شملت الجرائم كذلك مذابح فظيعة، أبرزها مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، التي نفذها الطبيب المستوطن باروخ غولدشتاين في فبراير/شباط 1994، وراح ضحيتها 29 فلسطينياً قتلوا أثناء صلاة الفجر في رمضان. ومن الجرائم المشهودة كذلك؛ جريمة إحراق عائلة دوابشة في يوليو/تموز 2015، وحرق الطفل/ الفتى محمد أبو خضير (16 عاماً) حياً بعد اختطافه من أمام منزله في شعفاط- القدس في 2014.
لكن واقعة حوارة التي وصفها بعض المعلقين الإسرائيليين بـ "ليلة البلور"؛ تذكيراً بليلة هجوم النازيين على اليهود وممتلكاتهم عام 1938، تتميز بعدد من الخصائص، التي تجعلها أخطر من كل ما سبقها من حوادث عنف:
- عملية جماعية، شارك بها مئات المستوطنين، بينما العمليات السابقة فردية أو من قبل مجموعات محدودة.
- وقوعها تحت سمع وبصر جيش الاحتلال، واستغرق التحضير لها ساعات عدة، عبر سلسلة من الاتصالات وعمليات التحشيد والتجمهر.
- جاءت في ذروة تصعيد تقوده حكومة اليمين، لحسم الصراع مع الفلسطينيين.
- مباركة قيادات سياسية ووزراء دعموا ما جرى، واعتبروه نموذجاً للردع المطلوب تجاه الفلسطينيين.
هناك من يربط بين التفاهمات التي أبرمت في لقاء العقبة (بمشاركة ممثلي السلطة الفلسطينية والأردن ومصر والولايات المتحدة وإسرائيل) وبين محرقة حوارة، التي وقعت في يوم الاجتماع نفسه، لجهة محاولة الحكومة الإسرائيلية التظاهر بالتزامها بالتفاهمات، وإلقاء المسؤولية على الفلسطينيين والمستوطنين. لكن حكومة نتنياهو بددت هذه الفرضية من خلال سلسلة الاجتياحات وعمليات القتل التي نفذتها شمالي الضفة.
كما أن متابعة ظاهرة تصاعد عنف المستوطنين واعتداءاتهم على الفلسطينيين، تخلص إلى أن "نموذج حوارة" كان متوقعاً، وهو تتويج لعملية طويلة من التعبئة والتنظيم، مستندة إلى بنية تحتية متكاملة، مع دعم حكومي مطلق، وفر الغطاء السياسي والقانوني، والحماية الأمنية، والتسهيلات اللوجستية من طرق وخدمات وشبكات اتصال حديثة.
طفرة جديدة لليمين المتطرف
عُرف حزب الليكود بوصفه الحزب الرئيسي في معسكر اليمين الإسرائيلي، الذي يسمي نفسه "المعسكر الوطني"، وتدور مواقفه حول تعزيز الهوية اليهودية، ورفض تقديم أي "تنازلات" للفلسطينيين. وقد نشأت على يمين الليكود حركات أكثر يمينية منه، مثل "هتحيا" و"موليدت "، و"تسومت"، والاتحاد الوطني، و"يمينا". إلى جانب هذه الأحزاب المشرّعة، تواجدت حركة "كاخ"، التي بدلت أسماءها للتحايل على قرارات حظرها. كما ظهرت حركات وائتلافات تدور حول مطلب واحد بعينه، مثل حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية، وحركة "هذه أرضنا"، وائتلاف "أرض إسرائيل الكاملة".
تمكن ملاحظة امتدادات هذا اليمين المتطرف حتى في الأحزاب التي تصطف في المعارضة حالياً، مثل حزب "يسرائيل بيتينو" برئاسة أفيغدور ليبرمان، الذي يعتمد على المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ويتخذ مواقف شديدة التطرف تجاه القضية الفلسطينية، وحزب "أمل جديد" برئاسة جدعون ساعر الخارج من رحم الليكود. عموماً؛ مثلت هذه الحركات حليفاً ثابتاً لحزب الليكود، لكنها كانت تنشأ وتنحل بسرعة، ولا تصمد أحياناً لأكثر من دورة برلمانية.
ظل المنحى العام للخريطة السياسية الإسرائيلية هو الانزياح المستمر نحو اليمين واليمين المتطرف، وانتقال ممثلي هذا التيار الأخير من هامش الخريطة السياسية إلى مركزها المقرر، وبوزن مؤثر في البرلمان. حالياً يتمثل تيار اليمين المتطرف في قائمة "الصهيونية الدينية"، التي تعد بمثابة طفرةً جديدةً أكثر تطرفاً وتبنياً صريحاً لخيارات العنف وترحيل الفلسطينيين.
تشكلت هذه القائمة من ثلاث قوى على أقصى يمين الخريطة السياسية، هي حركة الصهيونية الدينية وريثة حزب الاتحاد الوطني، وحركة "عظمة يهودية" وهي امتداد لحركة "كاخ"، وحركة "نوعم"، التي يغلب عليها الطابع الديني، ولأسباب انتهازية حظيت هذه القائمة بدعم معلن من قبل بنيامين نتنياهو في دورتي الانتخابات عامي 2021 و2022، فكانت المفاجأة في الانتخابات الأخيرة؛ أن هذه القائمة كانت ثالث أكبر القوائم الإسرائيلية الممثلة في البرلمان مع 14 مقعداً من أصل 120.
يطلق دارسو الوضع الإسرائيلي على هذا التيار اسم "الحردلية"، وهي كلمة مشتقة من كلمتي "ديني متزمت" و"قومي"، فقد عمد قادة هذا التيار إلى إنجاز تسويةٍ انتقائيةٍ بين الفكر الديني المتزمت (الحريدي الذي كان يرفض الفكرة الصهيونية أساساً) والفكر القومي الصهيوني المتشدد. ولعل أبرز من يعبر عن أيديولوجية هذا التيار هو الوزير بتسلئيل سموتريتش، الذي يدعي أن لا حقوق جماعية للفلسطينيين في "أرض إسرائيل"، فإن شاؤوا تجسيد حقوقهم السياسية والقومية فليقوموا بذلك في السعودية أو سورية! أما الوزير بن غفير فتغلب على أدائه المواقف الصاخبة والتهديدات، التي تمثل امتداداً لعنف الشوارع، الذي اعتاد عليه في شبابه المبكر، إذ يملك سجلاً جنائياً من 53 قضيةٍ.
التطرف والاستيطان
ليس ثمة تطابق كامل بين الاستيطان والتطرف، لكن يوجد تقاطع كبير بين المفهومين، يتأكد ذلك بدراسة أنماط التصويت في المستوطنات، حيث القاعدة الرئيسية لهذه الاتجاهات، أما قوى الوسط واليسار الإسرائيلي فلا أثر لها إلا في المستوطنات الكبرى، مثل موديعين ومعاليه أدوميم، التي هي فعلياً مدن مستقلة أو ضواح لمدينة القدس. ومن المؤكد وجود امتداد لهذا التيار المتطرف في مدن الساحل، بعد أن تحول إلى تيار رئيسي من مكونات الخريطة السياسية الإسرائيلية. يلاحظ نمو هذا التيار وازدياد وزنه النسبي مع اتساع الاستيطان وزيادة نسبة المستوطنين من إجمالي عدد السكان اليهود في إسرائيل، التي ارتفعت من 4% عشية اتفاق أوسلو عام 1993 إلى 12% في العام 2022.
تعد المستوطنات بيئة مواتية وخصبة لانتشار تيار اليمين المتطرف وأفكاره لأسباب عدة، من بينها ارتباط المعتقدات الدينية اليهودية بمواقع قائمة في الضفة الغربية المحتلة، مثل القدس والخليل، ووجود المستوطنين على تماس واحتكاك مباشر مع الفلسطينيين، من خلال شبكات الطرق، أو بسبب سيطرة المستوطنات على أراضي القرى الفلسطينية، إلى جانب ما يتعرض له المستوطنون دائماً عبر مؤسساتهم ووسائل إعلامهم، من تعبئة وتحريض تظهر الفلسطينيين خطراً وجودياً يهدد بقاءهم ومستقبلهم.
حظيت المستوطنات بدعم مستمر من قبل كل الحكومات الإسرائيلية، التي أغدقت عليها مساعداتها وتسهيلاتها، فاعتبرتها مناطق تطوير من الدرجة الأولى، مثّل إقرار قانون القومية اليهودي في العام 2018، الذي اعتبر الاستيطان "قيمة قومية" للشعب اليهودي، ودفع المشروع الاستيطاني دفعةً هائلةً، من خلال طرح مزيد من مشاريع البناء الاستيطاني وإقامة بؤر استيطانية جديدة، واستحداث نمط جديد هو الاستيطان الرعوي.
بنية تحتية للتطرف
مع اتساع أعداد المستوطنين وزيادة نفوذهم السياسي، نشأت في أوساطهم؛ بدعمٍ حكوميٍ كاملٍ، تشكيلات شبه عسكرية منظمة ومسلحة، ذات أشكال تنظيمية أقرب للمليشيات المدعومة بشبكة واسعة من المنظمات والجمعيات الأهلية والأدوات والمؤسسات الإعلامية، للتغلب على معارضة بعض الأوساط المتدينة والمتزمتة للخدمة في الجيش الإسرائيلي، بسبب طابع الجيش العلماني، طور الجيش والمستوطنون تشكيلات مصممة خصيصاً لاستيعاب الفئات المتدينة، مثل وحدات دراسة التوراة المعروفة باسم "ييشيفوت سيدر"، وكتائب "نيتسح يهودا"، ولواء كفير.
كما انتشرت على نطاق واسع مجموعات مدنية مسلحة مثل شبيبة التلال، وعصابات "تدفيع الثمن"، وكلها مسنودة بمنظمات حقوقية مثل مؤسسة "حانينا"، وجمعية "كلنا أسرى صهيون"، مقرها في الولايات المتحدة الأميركية، هذه المنظمات تدافع عن عنف المستوطنين في حال ضبطهم يخالفون القانون، وتوفر لهم ولعائلاتهم مساعدات مالية. كما يملك المستوطنون وتشكيلاتهم السياسية والاجتماعية عدداً من وسائل الإعلام المهمة، مثل القناة 14، ووكالة الأنباء 404، وعدد من الصحف والإذاعات الجهوية والقطرية.
طبيعي أن يعمد المستوطنون إلى حيازة الأسلحة وهم وسط مجتمع الاحتلال المدجج بالأسلحة، علاوة على التسهيلات الهائلة التي تقدمها الحكومة للتسلح واقتناء السلاح، يسعى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى تتويج كل ذلك بإنشاء "الحرس الوطني"، الذي يحتوي كل هذه التشكيلات ويربطها بالجيش، مع الحفاظ على خصوصيتها المدنية والاستيطانية.
تُسمع أحيانا في صفوف المستوطنين أصوات تدعو إلى منح حق تقرير المصير للمستوطنين، رداً على أي تنازلات سياسية تلوح للفلسطينيين، بعضهم يدعو إلى إقامة دولة "يهودا والسامرة"، إلى جانب دولة إسرائيل، لكن عموماً؛ كان المستوطنون وتشكيلاتهم جزءاً لا يتجزأ من أدوات الاحتلال وآلياته، التي تتكامل مع عمل الحكومة والمؤسسات الأخرى، وتشكل رديفاً لها.
يبقى السؤال الآن: هل يملك المستوطنون خيارات سياسية للعمل بمعزل عن خيارات الحكومة الإسرائيلية؟ من المؤكد أن ذلك لا يرتبط بهم فقط، بل بموقف حكومتهم، وكذلك بموقف المجتمع الدولي من القضية الفلسطينية ومن عنف المستوطنين وانفلاتهم المتصاعد، وبخيارات الفلسطينيين الكفاحية في مواجهة عدو لا يكتفي بقمعهم واستعبادهم، ولكن يعلن صراحةً عن نيته اقتلاعهم من أرضهم.
المصدر: العربي الجديد