مدن أشباح ودولة مشلولة وصدمات نفسية عميقة.. كيف تغيرت إسرائيل كلياً بعد هجوم السابع من أكتوبر؟
"لن أعود للعيش في غلاف غزة أبداً". "لقد ظننا أننا آمنون وأن جيشنا أقوى جيش في المنطقة، لكن الآن تحطّمت هذه الصورة". بهذه الكلمات يصف إسرائيليون حالهم بعد الصدمة التي لحقت بدولتهم قبل نحو أسبوع على يد مقاتلي المقاومة الفلسطينية.
Table of Contents (Show / Hide)
وبينما تحاول إسرائيل استعادة قدرتها على ضمان الأمن لمواطنيها الذي فقدته بشكل غير مسبوق منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتحاول استرداد نوع من الردع عبر مغامرة كبرى غير مضمونة العواقب في غزة، تعيش إسرائيل حالة من الشلل التام، بل إن نمط الحياة تغير فيها بشكل كبير، حيث يقول إسرائيليون اليوم، إنه لن يعد هناك شيء طبيعي بعد الآن، وقد تحتاج الدولة لـ30 عاماً حتى تشفى من آثار هذه الصدمة!
كيف تغيرت إسرائيل بالكامل بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟
بعدما استفاقت الحكومة الإسرائيلية وجيشها من الصدمة المهولة، بدأت باستدعاء الإسرائيليين بأعداد قياسية وشن حملات قصف عشوائية وجنونية. وقد صدرت أوامر بإغلاق المدارس والدخول إلى الملاجئ وأصبحت الشوارع مهجورة والمدن كمدن الأشباح.
يقول تقرير لصحيفة فاينانشيال تايمز الأمريكية، إن الأرصفة التي كانت في تل أبيب مزدحمة خارج المقاهي عادة، أصبحت تتكدس فيها الكراسي الفارغة، حيث لم يبق أي جانب من جوانب الحياة في البلاد لم تمسها الحرب. وقالت الإسرائيلية تاليا هورويتز، التي تعمل في مقهى في القدس المحتلة للصحيفة: "كل شخص لديه أفراد من عائلته أو يعرف أشخاصاً قُتلوا، أو لديه أشخاص لا يعرف مكانهم أو تم أسرهم.. إنه الحدث الأكثر صدمة في حياتنا كإسرائيليين".
وعلى مدار 4 أيام، قتلت قوات كوماندوز حماس أكثر من 1400 إسرائيلي، وأصابت أكثر من 3000 آخرين، واختطفت العشرات غيرهم، في عملية توغل كشفت عن أعمق الصدمات في النفسية في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته.
ومنذ تأسيس دولة الاحتلال عام 1948 على الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاضت إسرائيل حروباً عديدة مع الدول العربية في المنطقة، واعتاد الإسرائيليون على العيش في منطقة معادية لهم. ولكن على الرغم من تلك الحروب فإن الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية التي يرى لها بأنها "الأقوى في المنطقة"، انهارت تماماً وبشكل غير مسبوق أمام حماس التي لا تعتبر جيشاً نظامياً.
"ظننا أننا آمنون لكن الآن تحطمت هذه الصورة"
في الأعوام الأخيرة، أصبح بعض الإسرائيليين يأملون في نجاح مزيج من الردع والحوافز الاقتصادية في ترويض حماس بالأموال والتسهيلات كما حدث ذلك من قبل مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي تسيطر عليها حركة فتح. وبالنسبة للعديد من الإسرائيليين، تم هدم هذه المعتقدات خلال الأيام القليلة الماضية بالكامل، حيث تمكنت المقاومة من التغلب على القوات الإسرائيلية في جنوب البلاد بشكل لن يمحى من ذاكرة الإسرائيليين والعالم.
وكان الفشل العسكري والاستخباراتي عظيماً ومدهشاً إلى الحد الذي جعل كثيرين يرون أنه يفوق كارثة حرب يوم الغفران عام 1973 وأي معركة سابقة أو لاحقة. وقالت هورويتز لصحيفة فايننشال تايمز: "اعتاد الجميع أن يقول إن جيش الدفاع الإسرائيلي هو أفضل جيش في العالم، وظننا أننا آمنون. لكن الآن تحطمت هذه الصورة".
أثر الخوف وعدم اليقين في كل مكان على جميع الإسرائيليين وأحدث لهم صدمة نفسية عميقة. وقد أفرغت أرفف المتاجر الكبرى بسبب موجة من الذعر في الشراء، وأصبح هناك شح كبير في المنتجات مثل الحليب على سبيل المثال. كل ذلك وسط تكهنات بأن القوات الإسرائيلية سوف تغزو غزة قريباً وستكون هناك جولة قتال مدمرة، وستندلع حرب مع حزب الله المدعوم من إيران على الحدود الشمالية لإسرائيل.
"لن أعود للعيش في غلاف غزة أبداً"
يقول الإسرائيلي تشن رينان، الذي يعمل في سوق "محانيه يهودا" الذي كان يعج عادة بالحركة في القدس المحتلة: "لم يعد هناك شيء طبيعي في إسرائيل، أعتقد أن هذا الهجوم سيغير البلاد لمدة 30 عاماً".
على يساره، يروي نداف بيرتس، وإيلي دودائي من كيبوتس ناحال عوز بالقرب من حدود غزة تجربتهما، حيث أمضى إيلي دودائي وشريكه نداف بيريتس يوم السبت محبوسين في الغرفة الآمنة بمنزلهما في ناحال عوز، بينما كان المسلحون يجتاحون الكيبوتس من كل حدب وصوب.
ومثل الآخرين من سكان مدن غلاف غزة التي تعرضت للهجوم، فإنهما يقيمان الآن في أماكن أخرى، وهم غير متأكدين ما إذا كانا يريدان العودة للعيش في غلاف غزة أم لا بعد الآن. وقال دودائي بصوت متقطع: "أحاول أن أفكر في المرة الأولى التي يجب أن أعود فيها إلى المنزل، وعلى الفور أصمت وأقول إنني لن أعود أبداً!".
وقد أدت "محنة" النازحين الإسرائيليين من غلاف غزة إلى تعبئة مدنية ضخمة. فمثل العديد من المطاعم الأخرى، أصبح مطعم الإسرائيلية "رينات سيلفستر" في القدس مغلقاً أمام الجمهور. لكن في الداخل، جميع موظفيها حاضرون، يقومون بطهي الطعام بكميات كبيرة لإرسالها إلى الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم، أو الجنود الذين تم حشدهم، وكذلك المستشفيات التي تستقبل الجرحى على مدار الساعة.
ورغم قصف الطائرات الإسرائيلية الجنوني على قطاع غزة، الذي أدى إلى قتل نحو 3000 فلسطيني وإصابة نحو 10 آلاف آخرين جلهم مدنيون، يقول العديد من الإسرائيليين إنهم يريدون رداً أكثر عدوانية بكثير على الفلسطينيين. حيث لا تكاد تسمع عبر موجات الأثير ووسائل الإعلام الإسرائيلية إلا بالأصوات التي تطالب بتدمير حماس وإبادة غزة.
ما الذي اكتشفته إسرائيل خلال مواجهتها للاختبار الحقيقي؟
لا شك أن الجبهة الداخلية غير مستعدة، لا على الصعيد الاجتماعي ولا النفسي، ولا يوجد هناك مساحات تكفي، لرصد حجم الواقع النفسي للمجتمع الإسرائيلي، الذي يشتكي من العزلة والخوف والحيرة الشديدة والإحباط، وعدم الثقة في المستقبل، والتفكير الجدي بالمغادرة، والتعويض بالغضب والانفعال والشك والرغبة في الانتقام.
ويقول محللون إن إسرائيل اكتشفت أن أعداد العاملين في أجهزة الأمن الداخلي، غير كافية للتعامل مع أي اضطراب داخلي، ولا حتى المعدات كافية، حتى اضطرت لتدشين جسر عاجل، لنقل معدات من الولايات المتحدة لإسرائيل وبشكل كبير، مثل العربات رباعية الدفع والمحصنة، والسترات الواقية ومعدات المراقبة والأسلحة، وربما لديها مشكلة الآن في تأخر التوصيل بعد انشغال رعاتها في دعم أوكرانيا أمام روسيا.
بعد مواجهتها للاختبار الحقيقي، اكتشفت إسرائيل أن استثماراتها في التكنولوجيا العسكرية، كان على حساب القوات البرية، إذ كانت تعتقد بأنه لا حاجة لقوات كبيرة، وتدريب متواصل، وإنفاق مزيد من الأموال، في ظل قدرة الأجهزة الاستخباراتية، على توفير المعلومات في الوقت المناسب، وقدرة التكنولوجيا على القيام بالمهام المطلوبة من القوات البرية.
والآن تشتكي القوات البرية، من أنها لن تكون قادرة على الاستنفار المتواصل لفترة طويلة، ولكن لا خيار أمامها سوى هذا الإنهاك الإجباري، بعد أن انهارت الثقة في الأمن والتكنولوجيا.
أما تمويل الحرب، فهي مشكلة معقدة، ولعل أسبوعاً واحداً فقط قد كشف حجم الكارثة التي سيكون عليها الاقتصاد الاسرائيلي بعد فترة، فكل القطاعات تخسر، وتخشى إسرائيل الآن بقوة من سيناريو هجرة الصناعة لديها، خصوصاً أنها دولة توصف "بأم الشركات الناشئة"، وهي شركات قادرة على التحرك السريع، وإعادة توجيه مواقع استثماراتها.
في الوقت نفسه، يشتكي قطاع الصحة من الضغط الشديد، وكذلك كل القطاعات الحيوية في إسرائيل، ومع كل ذلك، لا تزال إسرائيل، مجبورة على رد يرمم صورتها، ولعل الأيام القادمة، ستوضح شكل وطبيعة هذا الرد، بعد أن يتضح في عقل أصحاب القرار الإسرائيلي المنقسمين على ذاتهم.