وتعكس هذه الحال، البون الشاسع والهوة الفاضحة بين ما يحدث في غزة من قتل وتنكيل وانتهاكات لم يعرفها التاريخ الحديث، وما يدور فوق تراب بلاد الحرمين، الدولة التي طالما صدّرت للعالم صورة أنها مرجعية المسلمين وعلى أكتافها هموم المليار مسلم في شتى بقاع الأرض.
موقف مخزٍ وفاضح للسعودية إزاء غزة والقضية الفلسطينية، هذا ما كشفه رد الفعل الذي أبدته المملكة تجاه الأزمة منذ انطلاق الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، موقف يتماهى شكلًا ومضمونًا مع التوجه الإسرائيلي، ويتعارض بشكل مثير للاشمئزاز مع حقوق الفلسطينيين والمقاومة تحديدًا، التي تعزف الرياض كما دولة الاحتلال على أوتار شيطنتها وتحميلها مسؤولية ما وصل إليه الوضع الراهن.
لم تترك السعودية بابًا يمكن الطعن من خلاله في المقاومة إلا وطرقته، ولم يكن هناك موقف داعم للقضية إلا وحادت عنه، مكتفية ببيانات الشجب والإدانة بينما هي غارقة في مجون الحفلات الراقصة في الوقت الذي يتساقط فيه أطفال ونساء غزة بالمئات.
سياسيًا.. طعن مباشر
اكتفت الرياض كغيرها من الدول العربية ببيانات شجب وإدانة صادرة عن خارجيتها، حذرت فيه من التصعيد داخل الأراضي الفلسطينية، ومع تصاعد الأحداث خرج ولي العهد محمد بن سلمان بتصريحات متفاوتة بشأن ضرورة التوصل إلى حل لوقف إطلاق النار، دون أن يقدم أي حلول عاجلة لإنقاذ الوضع في ظل علاقاته الجيدة مع واشنطن وتل أبيب.
في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفي اليوم الـ16 للحرب وبينما المدن العربية تتزلزل بالتظاهرات المنددة بجرائم الاحتلال، خرج ولي العهد مبتسمًا ليعلن عن انطلاق بطولة كأس العالم للألعاب الإلكترونية، معربًا عن عشقه الشديد لتلك الألعاب، ومعتبرًا ذلك نقطة تحول كبيرة نحو انطلاق بلاده للعالمية.
في 26 أكتوبر/تشرين الأول قالت صحيفة “نيويورك تايمز” نقلًا عن وفد من الكونجرس كان يزور الرياض لحضور مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار الذي عقد هناك، إن المملكة ماضية قدمًا في استضافة المنتديات الاستثمارية والحفلات الترفيهية بصرف النظر عن الوضع في غزة.
وفي اليوم التالي نقلت الصحيفة عن عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي قولهم إن هناك انطباع إيجابي لديهم بشأن استمرار رغبة السعوديين في إبرام اتفاق تطبيع مع دولة الاحتلال والاعتراف بها لكن عندنا تأتي اللحظة المناسبة.
فيما نقلت الصحيفة الأمريكية عن السيناتور ليندسي جراهام قوله إن ابن سلمان كان غاضبًا من هجوم المقاومة الإسلامية على الاحتلال في 7 أكتوبر/تشرين الأول وفُهم من كلامه أنه اعتبر ذلك عملًا إرهابيًا، وطالب بالرد الذي وصفه بضرورة أن يكون مدروسًا.
الانطباع ذاته عبر عنه صهر ترامب المقرب من ابن سلمان، جاريد كوشنر، خلال مقابلة له مع قناة “فوكس نيوز”، حين أكد رغبة الحكومة السعودية في التطبيع مع الاحتلال وأن لديهم حماسة كبيرة لذلك، وعلق على الأجواء الجيدة في المملكة والملائمة لإقامة اليهود، قائلًا: “إحدى المفارقات هي أنك، كيهودي أمريكي، أكثر أمانًا في المملكة العربية السعودية الآن مما أنت عليه في حرم جامعي مثل جامعة كولومبيا.. لقد تحدثت في المؤتمر وسمحوا لي بالتحدث بحرية”.
إعلاميًا.. شيطنة المقاومة وتبني السردية الإسرائيلية
وبالتوازي مع تمييع الموقف السياسي الرسمي، كان الإعلام السعودي أكثر وضوحًا في المواقف، حيث حملات ممنهجة لاستهداف المقاومة وخاصة حماس، والعزف على أوتار الشيطنة، كذلك تبني الرواية الإسرائيلية بحذافيرها فيما يتعلق بمسؤولية المقاومة عما وصل إليه الوضع.
الإعلامي السعودي عبد العزيز الخميس عبر شاشة تلفزيون الاحتلال الإسرائيلي قال صراحة: “إذا انتهت الحرب بدون التخلص من حماس، فهي هزيمة للعالم الحرّ، وحماس يجب أن تنتهي لكي تعيش غزة ودول المنطقة في أمان واستقرار”.
الصحفي السعودي حسين الغاوي، حذر مما أسماه “تمجيد محور المقاومة” الذي وصفه بالكاذب “بما فيه كتائب القسام وحماس، هؤلاء لا يهمهم “إسرائيل” بل همهم السعودية ودول الخليج ومصر والأردن، والدليل أن كتائب القسام أعلنت مؤخرًا أنها تعتز بأن قاسم سليماني اعتمد عليها في وصيته وأنها ستحقق حلمه ومشروعه، سليماني بالتأكيد تعرفونه جيدًا فهو الذي قتل إخوتك في سوريا والعراق” واختتم تغريدته قائلًا: “إخوتنا في فلسطين عانوا الأمرين من كيان مغتصب إرهابي وأدوات أدمنت الخيانة والارتزاق تحت ما يسمى مقاومة، وقادم الأيام سينكشف كل شيء”.
الكاتب المعروف علي البصيلي كتب هو الآخر يقول: “اللهم انصر أهل غزة على اليهود الغاصبين اللهم عليك بهم فإنهم لايعجزونك، وأتباع حزب الشيطان وحماس ذيل إيران، يتظاهرون أمام السفارة السعودية في لبنان بصمت من وزارة الداخلية اللبنانية المأجورة”، ثم جاءت التعليقات من رواد سعوديين تدعم هذا الطرح بشكل كبير.
في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كشفت منصة التحقيقات الاستقصائية “إيكاد” على صفحتها بموقع “إكس” عن تتبعها لحسابات سعودية “تمر” و”حضارات السعودية 1727″ و”حمد العتيق” و”الكعام” تم تدشينها بعد ساعات قليلة من انطلاق عملية طوفان الأقصى، تشن حملة ممنهجة ضد حركة “حماس” والمقاومة الفلسطينية بصفة عامة، ووصفت تلك الحسابات بـ”السعودية الصهيونية” وأكدت أنها تقدم نفس الرواية الإسرائيلية وتردد نفس العبارات والتعبيرات الصهيونية، حيث ركزت على إدانة ما أسمته “استهداف المدنيين الإسرائيليين”، وأن ما يحدث مجرد “مسرحية” بين المقاومة وحماس هدفها جمع الحركة للمال، فيما عزف آخرون على الدور الإيراني في الحرب وأن طهران من دفعت لذلك، وعليه يجب محاربتها وتقليم أظافرها.
حتى لجان الذباب الإلكتروني الأخرى التي تعمل من خلال أسماء وحسابات إسرائيلية ذات صلة بمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي، تتماهى بين المغردين العرب، وتقوم بالهجوم على المقاومة وشيطنتها، اتهمها البعض بأنها ترجع لحسابات سعودية لكنها تقمصت في صورة شخصيات يهودية لإدانة حماس وتجييش رأي عام ضدها.
قناة “العربية” التي تعد صوت المملكة الرئيسي إقليميًا ودوليًا، تبنت سياسة تحريرية مغايرة تمامًا لمسار المقاومة، وأقرب بخطوات كبيرة نحو الرواية الإسرائيلية، وهو ما اتضح من خلال تغطيتها للأحداث والعبارات المستخدمة، حيث سمّت المعركة بين المقاومة والاحتلال بالمواجهات فيما تبنت سردية جيش الاحتلال بشكل كبير خاصة فيما يتعلق بالتفوق الميداني ووصول مدرعاتها ودباباتها لوسط غزة، رغم تكذيب المقاومة لذلك، فيما وصف مستشار الشؤون العسكرية للقناة رياض قهوجي المقاومة الفلسطينية بـ”الدواعش”.
الهجوم السعودي على المقاومة إعلاميًا وعبر لجان الذباب الإلكتروني ليس بالأمر الجديد، فللمملكة سجل مشين في هذا الأمر، وصل إلى حد المطالبة بحرق الفلسطينيين جميعهم، كما جاء على لسان الإعلامي السعودي رواف السعين الذي طالب من قبل رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو بحرق الفلسطينيين الذين اتهمهم بالخيانة، قائلًا: “مستعد أنام عند يهودي ولا أنام عند فلسطيني”، وتابع “ليس لكم أرض وليست لكم قضية، فالقضية قضية إسرائيل”.
دينيًا.. شيوخ السلطان على المسرح
كعادة المملكة، لم يتأخر شيوخ السلطان عن تلبية النداء، فشاركوا الإعلام في التقليل من شأن ما يحدث في غزة، ليس شرطًا العزف على وتر شيطنة المقاومة، لكن عبر مسارات أخرى تثبط الهمم وتهمش القضية وتسطّح ردود الفعل المتعاطفة معها.
الداعية الشهير، فهد بن سليمان الفهد قلل من شأن التظاهرات التي شهدتها معظم بلدان العالم العربي والإسلامي – ما عدا السعودية وبعض البلدان الأخرى – دعمًا للفلسطينيين، إذ يقول بكل وضوح إن “المظاهرات لأجل غزة ليست من الدين وإذا رأى ولي الأمر الصلح مع إسرائيل في هذا الوقت سمعنا وأطعنا، والذين يعارضون ولي أمر في ذلك فهم ليسوا من السنة في شيء”.
أما الداعية سليمان الرحيلي فأرجع تجريم التظاهرات لأمر شرعي فقهي، لافتًا إلى أن الفعاليات الاحتجاجية التي تخرج في بعض البلدن لدعم فلسطين لا خير ولا نفع فيها على حد قوله، مبررًا ذلك بأن “فيها اختلاط بين الرجال والنساء، وهتافات تُخوّن ولاة الأمور وهو أمر غير مقبول شرعًا”، وهو الرأي الذي أكده الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل الذي أجاب حين سئل عن موقف المسلمين من مجازر الاحتلال في غزة قائلًا: “خليك مع ولاة الأمر، أنت كشخص ماعندك شيء”.
فنيًا.. الرقص على أشلاء الفلسطينيين
ما لم يُدعم بالقول والتصريح والتلميح دُعم بالفعل، فبينما الصواريخ تمطر سماء غزة وتسقط المئات من الشهداء كانت ساحات العاصمة السعودية تعج بالموسيقى والغناء والطرب، إيذانًا بانطلاق فعاليات موسم الرياض السنوي، بحضور ومشاركة مشاهير الفنانين والمطربين من مختلف دول العالم، عربه وأعجمه، وسط رقص ماجن من أبناء الشعب السعودي، رجاله ونسائه، رغم دعوات التأجيل ومناشدات الإلغاء تعاطفًا مع الفلسطينيين.
الفنان المصري محمد سلّام الذي كان سيشارك في مسرحية بمهرجان موسم الرياض، خرج قبل يوم واحد فقط من انطلاق الفعاليات ليعلن اعتذاره عن المشاركة والسفر، قائلًا إنه لا يمكنه الغناء ونشر البهجة بينما أهل غزة يتم ذبحهم، موضحًا أنه كان ينتظر تأجيل المهرجان أو إلغائه من إدارته، لكن الأمر لم يحدث ما اضطره للإعلان عن عدم تمكنه من المشاركة.
الرسالة رغم قوتها وتأثيرها وما سببته – هكذا يفترض – من حرج لإدارة المهرجان لكنها لم تؤتِ ثمارها ولم تحرك ساكنًا، وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول افتتح رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ، موسم الرياض في نسخته الجديدة، وبمشاركة عدد كبير من نجوم الفن والرياضة عربيًا وعالميًا، مثل كريستيانو رونالدو وكونور مكريجور وصامويل إيتو ومايك تايسون وإيمينم ونانسي عجرم وأحمد عز ومحمد هنيدي وإليسا وغيرهم، ضاربًا بكل المناشدات عرض الحائط.
الافتتاح وما تضمنه من إبهار بصري وسمعي أثار غضب الكثير من رواد التواصل الاجتماعي، تنديدًا بموقف المملكة المتخاذل والفاضح إزاء الأشقاء في فلسطين، وهي الحملة التي استفزت تركي آل الشيخ وأجبرته على الرد عبر منشور على حسابه على “فيس بوك” قال فيه: “هناك نقطة مهمة أعتقد يجب الإشارة إليها بوضوح، وأنا في الفترة الأخيرة لم أتحدث كثيرًا، لكن اعتقد أنه من المهم الحديث الآن”. وتابع “سنة 1967 عندما احتُلّت دول لم يتوقف أي شيء، وعند حرب لبنان لم يتوقف أي شيء، وعندما حوربت بلدي 7 سنوات لم يتوقف فيها شيء، ودم السعودي أغلى لدي من أي شيء” لكنه سرعان ما حذفه بعد أن زاد المنشور الطين بلة، وكشف عن إصرار ممنهج من المملكة لإقامة تلك الاحتفالات، وأن الأمر لم يكن سهوًا أو غير مقصود كما حاول البعض أن يبرر.
ضعف الموقف السعودي
تفسيرات عدة وراء هذا الموقف السعودي المتخاذل إزاء القضية الفلسطينية عمومًا وحركات المقاومة الإسلامية على وجه الخصوص، مقارنة بالمواقف الجادة إزاء ملفات أخرى إقليمية وعربية كالملف السوداني والليبي والأوكراني وخلافه، حيث يُرجع البعض هذا التوجه الرمادي إلى قلق الرياض كما بعض العواصم الأخرى من نجاح حماس والحركات المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، وخشية نقل عدوى الانتصار إلى عواصمهم، فضلًا عن اختصار المقاومة في العباءة الإيرانية، وهي السرديات الوهمية التي نجح الاحتلال في زرعها في العقل السعودي والإماراتي وربما المصري، لتضييق الخناق على المقاومة، ويبدو أنه نجح في ذلك بنسبة كبيرة وفق ما هو متداول حتى الآن.
ويلخص الكاتب الأمريكي ستيفن كوك، الباحث في مجلس العلاقات الأمريكية، الموقف السعودي في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” في 26 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ قائلًا إن السعودية غائبة بشكل غامض في الحرب بين “إسرائيل” وحماس، مضيفًا: “عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية وإدارة الأزمات، يبدو السعوديون بقيادة ابن سلمان عديمي الفائدة”.
ويعتقد كوك أن ابن سلمان كشف عن موقف السعودية الضعيف إقليميًا ودوليًا من خلال تجنب الإفصاح عن موقف بلاده من الحرب الحاليّة، مكتفيًا بإصدار البيانات وانتقاد المجتمع الدولي، وبدلًا من ذلك “انتقل للدردشة مع نجوم كرة القدم وافتتاح بطولة ألعاب إلكترونية باعتبارها إستراتيجية أفضل” كما يقول الباحث الأمريكي.