الرواية الأكثر سذاجة في تاريخ الحروب.. كيف انقلبت أكذوبة تحصن حماس بمستشفى الشفاء لمسرحية كوميدية؟
"الأكذوبة الأكثر تفاهة في تاريخ الحروب"، لم يعرف التاريخ على الأرجح جيشاً جعل من مستشفى عدواً وخصماً له بهذا القدر من مستشفى الشفاء، ولم تعرف حروب الدعاية في الأغلب أيضاً رواية متهافتة كرواية أن الشفاء هو مركز قيادة حماس، أما الأمر الأكثر كوميدية فهو الأدلة التي قدمها جيش الاحتلال على هذه الرواية، فلماذا ورط نفسه في هذه المعضلة؟
Table of Contents (Show / Hide)
يؤكد المسؤولون الإسرائيليون منذ أسابيع، دون أن يقدمو أدلة أن حركة حماس المسلحة لديها مركز قيادة أسفل مستشفى الشفاء في غزة -وهو ملجأ لآلاف المرضى المذعورين والأطباء المثقلين بالعمل والمدنيين النازحين- ما يجعله هدفاً عسكرياً مشروعاً، حسب زعمهم.
ورغم أربعة أسابيع من الدعاية والقصف والتخويف، بقي أغلب الطاقم الطبي في المستشفى ورفض مغادرته وترك المرضى.
إسرائيل صورت المستشفى كغرفة قيادة كبيرة رغم نفي الأطباء الأجانب لهذه المزاعم
ورغم تأكيد أطباء أجانب كثيرون يعملون في المستشفى أنه خالٍ من أي وجود عسكري؛ فإن إسرائيل صورت لشعبها ورعاتها الغربيين أن قادة حماس الكبار يقبعون داخل مستشفى الشفاء أو في قبو سري أسفله، يجتمعون في غرفة عمليات تحوي شاشات لرصد العمليات، بينما المكان مدجج بالصواريخ الذي تستهدف إسرائيل، وأصبح الشفاء هو العدو للإسرائيليين؛ حتى إن أطباء إسرائيليين طالبوا جيش الاحتلال بقصف المستشفيات الفلسطينية.
وأكد المسؤولون الإسرائيليون مراراً وتكراراً أن المرافق الطبية تُستخدم لأغراض عسكرية، وأن مستشفى الشفاء على وجه التحديد هو "القلب النابض" للبنية التحتية لقيادة المجموعة في شمال غزة، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ولكن تمخّض الجبل ولم يلد حتى فأراً.
وها هي قوات الاحتلال تداهم مستشفى الشفاء
في ليلة الثلاثاء، بعد ساعات من دعم المسؤولين الأمريكيين لادعاءات إسرائيل حول وجود نشاط مسلح في الشفاء، داهمت القوات الإسرائيلية المجمع الطبي الضخم، فيما وصفه جيش الاحتلال بأنه "عملية دقيقة وموجهة ضد حماس في منطقة محددة".
ولكن محاولات إسرائيل إثبات صحة هذه الرواية كانت مثيرة للسخرية، وأثارت انتقادات حادة حتى داخل الدولة العبرية.
وكانت حركة حماس قد طالبت مراراً بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في ادعاءات إسرائيل باستخدامها مجمع الشفاء لأغراض عسكرية، محذّرة من أنه تمهيد لاستهدافه، وحذرت من أن الاحتلال سوف يقوم بعد اقتحامه المستشفى بفبركة وتزييف أدلة مزعومة عن وجود نشاط عسكري لحماس في المستشفى.
ولكن يبدو أن حماس لا يجب عليها ألا تنزعج، وتشغل نفسها بهذه اللجنة الدولية، فالفيديوهات التي نشرها الجيش الإسرائيلي لإثبات صحة مزاعمه مثيرة للشفقة.
فيديوهات مثيرة للسخرية
نشرت إسرائيل فيديوهين على الأقل بعد اقتحام مستشفى الشفاء.
يبدأ أحدهما بتأكيد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، بلغة واثقة مصطنعة، أن جيش الاحتلال وجد ما يؤكد أن المستشفى هو مقر عسكري رئيسي، ما يجعل المشاهد متحفزاً لرؤية أدلة مفزعة تضم آلافاً من الأسلحة والمعدات النوعية.
ولكن ما عرضه الفيديو، إذا افتُرض أنه صحيح، جعل المراقبين الغربيين يتساءلون إن كان يستحق استهداف أكبر مستشفى بغزة هذه الوحشية والتسبب في قتل الأطفال الخدج، وانتهاك حرمة المستشفيات والحماية التي تتمتع بها بموجب القانون الإنساني الدولي، ولا تفقده إلا في الظروف التي يتم فيها استخدام المنشأة من قبل الطرف المحارب. وحتى ذلك الحين، تظل رعاية المرضى ذات أهمية قصوى.
إليك الأسلحة المزعومة التي أظهرتها الفيديوهات والتي تكذّب نفسها
ونشر الجيش الإسرائيلي مقطعي فيديو وبعض الصور أمس الأربعاء من مستشفى الشفاء يظهر ما قال إنها أسلحة حماس ومعدات أخرى تم العثور عليها بالمجمع.
في الفيديو بضعة كومات من البنادق الآلية جُمعت على عجل فيما يبدو، ومن السهل جداً، أن يكون قد تم وضعها من قبل جيش الاحتلال بعد دخوله مستشفى الشفاء.
ويبدو أن غالبية مقطعي الفيديو قد تم تصويرهما داخل وحدة الأشعة بالمستشفى، والتي تسمى مركز الأمير نايف، وتقع بجوار غرفة الطوارئ في قلب مجمع الشفاء.
وهذا في حد ذاته يحطم الرواية الإسرائيلية، فالأسلحة موضوعة في بعض الأجزاء الأكثر استخداماً من المستشفى من قبل المرضى والطاقم الطبي، علماً بأن مجمع الشفاء كان يوجد به، قُبيل اقتحامه، نحو 1500 من أعضاء الطاقم الطبي، ونحو 700 مريض، و39 من الأطفال الخدج، و7 آلاف نازح.
في مقطع الفيديو الأطول، يقوم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، جوناثان كونريكوس، بجولة في المبنى، ويتوقف بشكل دوري لإظهار المكان الذي قال إن حماس قد أخفت فيه الأسلحة المفترضة.
ينحني خلف جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي ليُظهر للمشاهدين حقيبة ظهر بها بندقية من طراز AK وذخيرة. ثم انتقل إلى أسفل القاعة، وتوقف عند خزانة حيث قال إنه تم العثور على 4 بنادق ذاتية التحميل من طراز AK مع مخزون قابل للطي.
ويبدو أن الصور التي نشرها الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق تظهر الحمولة الكاملة المزعومة، والتي تم وضعها بدقة: زياً عسكرياً، 11 بندقية، 3 سترات عسكرية، واحدة عليها شعار حماس، 9 قنابل يدوية، نسختين من القرآن الكريم، سلسلة من المسبحات، وعلبة تمر..
خبير غربي يؤكد أنه لو صحت هذه المزاعم فهي لا تبرر هذه الجريمة
وقال بريان فينوكين، أحد كبار المستشارين في مجموعة الأزمات الدولية والمستشار القانوني السابق في وزارة الخارجية لصحيفة واشنطن بوست: "لا يبدو أن هذه الأسلحة في حد ذاتها تبرر التركيز العسكري على الشفاء، حتى لو وضعنا القانون جانباً".
هذا إذا افترضنا أنها لم تدس من قبل الاحتلال، علماً بأنها حتى لو لم تدس، فالطبيعي في مجمع طبي بهذا الحجم وفي منطقة مضطربة مثل غزة، وجود بضعة أسلحة لدى حراس المستشفى أو لدى الحراسة الحكومية لها.
الأهم أن الأماكن الموجودة بها الأسلحة، لا يمكن لحركة محترفة مثل حماس أن تتركها بها لتكون عرضة لآلاف من مرتادي المستشفى من الإعلاميين والنازحين، إضافة للمرضى والأطقم الطبية.
لا مؤشرات على وجود الأسرى، ومحلل إسرائيلي يهاجم جيش الاحتلال
وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، أمس الأربعاء، إنه "لا مؤشرات" على وجود أسرى إسرائيليين بمستشفى الشفاء، رغم أن جيش الاحتلال ادعى على مدى أسابيع وجود أسرى إسرائيليين فيه.
من جانبه، وجه المحلل العسكري الإسرائيلي يوسي ميلمان انتقادات لجيش الاحتلال بعد تصويره مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة على أنه "قلب الظلام"، دون العثور بداخله على الأسرى، أو عناصر من حركة "حماس".
جاء ذلك في منشور للمحلل بصحيفة "هآرتس" العبرية، مساء الأربعاء، على حسابه بمنصة "إكس".
وقال ميلمان الحاصل على جائزة سوكولوف للصحافة عام 2009: "لديّ شعور سيئ تجاه (مستشفى) الشفاء، إسرائيل خلقت صورة غير مسبوقة، وخلقت الانطباع بأن الشفاء هي قلب الظلام".
وأضاف: "لم يتم العثور على المختطفين هناك ولا الإرهابيين". حسب تعبيره.
ومساء الأربعاء، قال متحدث الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري: "الشفاء رمز حماس، لم يتخيل أحد من قيادة الحركة أن نصل إلى هناك".
وأضاف في مؤتمر صحفي: "كان هذا المكان بمثابة مخبأ بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لـ200 من إرهابيي حماس"، دون أن يقدم أي دليل على مزاعمه.
وتابع هاغاري: "عثرنا على زي نشطاء حماس تم إلقاؤه على أرضية المشفى حتى يتمكنوا من الهروب بزي مدني".
وزعم أنه تم العثور على "مقر عمليات وأسلحة ومعدات تكنولوجية في مبنى التصوير بالرنين المغناطيسي".
الفيديوهات تثبت تلاعب الاحتلال
ولنشر روايته أكثر، لم يكتف الاحتلال بالفيديو الذي قام بإخراجه، بل استعان بصحفي من قناة فوكس نيوز الأمريكية، وسمح له بالتجول في المكان، وقام بتصوير نفس المشاهد التي عرضها الاحتلال بالفيديو الخاص به، وهنا ظهرت المفارقة.
عند مقارنة المشاهد التي تم تصويرها من قبل الاحتلال، والمشاهد التي تم تصويرها من قبل القناة الأمريكية، يظهر بكل وضوح التلاعب بمكان وجود الأسلحة.
بالفيديو الذي نشره الاحتلال، سنجد أن هناك حقيبة موضوعة خلف جهاز تصوير الرنين المغناطيسي، وتحتوي بداخلها على سلاح وملابس عسكرية، وخلفها صندوق من الكرتون، غير معروف ما بداخله.
أما في الفيديو الذي قامت بنشره قناة فوكس نيوز، وعند الرجوع للمشهد التي يُظهر نفس المكان، وهو خلف جهاز التصوير المغناطيسي، سنكتشف أن الأمر تغير كلياً.
تظهر الصورة، أن هناك أغراضاً عسكرية تمت إضافتها للمكان، فسنجد كيساً مكتوباً عليه "مستلزمات طبية"، ووضع فوقه سلاحان، إضافة إلى حذاء عسكري وُضع في المكان.
كما فندت بعض وسائل الإعلام الفلسطينية تصرفات المتحدث باسم جيش الاحتلال خلال عرضه للمشاهد التي بثها، إذ لم يراعِ ضرورة عدم إمساك الأسلحة بيديه لعدم إفساد البصمات الأصلية المفترضة للوصول إلى أصحاب الأسلحة، على العكس، وبكل بساطة، لمس جنود الاحتلال "الأسلحة والأدلة" التي جمعوها بأيديهم المجردة، من دون قفازات، محطمين بذلك كل دليل للوصول من خلال البصمات.
وكان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد حذر قبل صدور فيديو جيش الاحتلال، من بقاء القوات في مستشفى الشفاء لمدة طويلة، وذلك خوفاً من إعداد مسرح لمشهد مصطنع، كي يثبت ادعاءاته.
حماس تؤكد أنها أدلة مفبركة، والاحتلال يقول وجدنا أشياء معينة!
عضو المكتب السياسي لـ"حماس" عزت الرشق، علق على تصريحات هاغاري، بقوله: "حذرنا وقلنا إن الاحتلال سيقوم بعمل مسرحية، كتلك التي زعمها في مستشفى الرنتيسي والتي ثبت كذبها، وهو يقدم اليوم روايته التافهة ومزاعمه المفضوحة".
وأضاف الرشق في بيان: "بعد نحو 20 ساعة من اقتحام المجمع بحثاً عن غرف السيطرة والأسرى، خرج الاحتلال على العالم بمسرحية سمجة مكشوفة، بجلبه بعض الأسلحة والملابس والأدوات، ووضعها في المستشفى بطريقة مفضوحة، وساق أكاذيب ورواية مفبركة، لا يصدقها أحد".
وأشار الرشق إلى أنهم طالبوا "مراراً بقدوم لجنة من الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر، لتتأكد بنفسها من كذب الاحتلال"، وفق البيان.
وفي مقابلة مع شبكة سي إن إن، يوم الأربعاء، كان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ريتشارد هيشت، حذر في تصريحاته حول ما كشفته الغارة. وقال: "لقد وجدنا أشياء معينة.. هذا كل ما يمكنني قوله في هذه المرحلة".
ويبدو أن المتحدث لا يريد التطرق للأمر، في انتظار حَبْك مزيد من الروايات.
وتزعم صحيفة واشنطن بوست أن حماس استولت على أجزاء من المستشفى خلال النزاعات السابقة، بما في ذلك عام 2014، عندما قالت منظمة العفو الدولية إن المسلحين استخدموا أجزاءً مهجورة من المجمع لاحتجاز المشتبه بهم واستجوابهم.
وقد نفى الأطباء وغيرهم من العاملين الطبيين في المستشفى بشدة استخدامها لأغراض عسكرية.
وقال أحمد مخللاتي، جراح التجميل الذي لا يزال يقيم في مستشفى الشفاء في وقت متأخر من يوم الإثنين: "أنا وزملائي لن نعرض حياتنا للخطر لأن هناك شخصاً يحمل سلاحاً". "لا يوجد سوى مدنيين هنا".
ولكن الحقيقي هو أن الأطفال المبتسرين يموتون بعدما أخرجوا من حضاناتهم
وأظهر تدفق مستمر من الصور ومقاطع الفيديو والملاحظات الصوتية انهيار المستشفى منذ بداية الحرب. تحولت الممرات إلى غرف عمليات، وتم إجراء العمليات الجراحية دون تخدير، وتم إجبار الأطفال المبتسرين على الخروج من حضاناتهم.
وأظهرت صور التقطها العاملون في المستشفى، يوم الثلاثاء، 36 طفلاً مبستراً، تم إخراجهم من حضاناتهم بعد نفاد الوقود اللازم لتشغيلها، وقال المسعفون إن ثلاثة ماتوا بالفعل.
وقد تم وضع الناجين معاً للحصول على الدفء. ويبدو أنهم كانوا ملفوفين بملابس الأطباء الخضراء.
وعندما نضب وقود المولدات وانطفأت الأضواء، اضطر الأطباء إلى اتخاذ قرارات مؤلمة بشأن من يجب إنقاذه.
المتحدث باسم جيش الاحتلال يقدم ترجمة مزيفة لكلمات عربية تظهر في الفيديو
الفيديوهان اللذان عرضهما الجيش الإسرائيليين من داخل مستشفى الشفاء، مركبان من مقاطع ولقطات مجمعة.
وفي أحدهما يستشهد هاغاري بربطة شعر على الأرض كدليل على أن حماس احتجزت رهائن في قبو المستشفى. وكُتب على الحائط "طوفان الأقصى". وزعم هاغاري أن هذه الكتابة أسماء مقاتلي حماس المكلفين بحراسة الأسرى الإسرائيليين باللغة العربية، ولكنها في الواقع مجرد أيام الأسبوع، ولكن المتحدث يحاول خداع غير المتحدثين باللغة العربية بطريقة مثيرة للسخرية.
ومع اقتحام القوات الإسرائيلية إلى الشفاء في وقت مبكر من يوم الأربعاء، قال عمر زقوت، مدير غرفة الطوارئ، لقناة الجزيرة إن الوضع "متفاقم بالرعب". وقال إنه لم تكن هناك مياه، وكان المزيد من المرضى يموتون بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
وأضاف: "شعرنا باقتراب الجيش من المستشفى من شدة إطلاق النار، ومن شدة الانفجارات، ومن شدة القصف حول المستشفى".
أمريكا أعطت الضوء الأخضر للهجوم على مستشفى الشفاء
خلال بداية الأسبوع، أعرب المسؤولون الأمريكيون عن دعم واسع النطاق لادعاءات إسرائيل بشأن استخدام حماس للمستشفيات كمواقع عسكرية، لكنهم تجنبوا التفاصيل وزعموا أن هذا هو سجل حماس، دون الحديث عن مستشفى أو ادعاء محدد، ، حسب تعبير مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في حديثه مع شبكة CNN يوم الأحد الماضي.
يوم الإثنين، عندما سُئل الرئيس بايدن عن الشفاء، قال إن المستشفيات "يجب حمايتها".
ولكن بعد ظهر يوم الثلاثاء، تغير خط الإدارة وبدأت تدعم الرواية الإسرائيلية.
إذ قال المتحدث باسم الأمن القومي جون كيربي للصحفيين على متن طائرة الرئاسة: "لدينا معلومات تؤكد أن حماس تستخدم مستشفى الشفاء بالذات في وضع القيادة والسيطرة"، مستشهداً بمعلومات استخباراتية مزعومة قال إنها رفعت عنها السرية، وأضاف: "هذه جريمة حرب".
ففي تصرف نادر، ادعت أمريكا أنها رفعت السرية عن أدلة تثبت هذه المزاعم، حسب ما قال مسؤول أمريكي يوم الأربعاء، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة مسألة حساسة.
ولكن رغم هذه الديباجة التي إحساساً بالدقة والخطورة لم تقدم أمريكا للعالم دليلاً واحداً على هذه المزاعم.
وقال المسؤول: "هذا لا يعني أننا نريد القيام بعمل عسكري في المستشفى.. العكس تماماً. لا نريد أن نرى غارات جوية على المستشفيات، أو معارك بالأسلحة النارية داخل المستشفيات".
فهذا جزء من سلسلة أكاذيب أمريكية متعددة منذ بداية الحرب
يذكّر هذا الادعاء بقول بايدن إنه شاهد فيديوهات لقطع حماس لرؤوس أطفال إسرائيل، ثم اعتراف البيت الأبيض بكذب هذا الادعاء.
ثم ادعاء بايدن والإدارة الأمريكية، ودول غربية أخرى أن مذبحة المستشفى المعمداني التي أدت لاستشهاد نحو 500 شخص نجمت عن صاروخ أطلق بالخطأ من المقاومة الفلسطينية، رغم اعتراف إسرائيل في البداية بتنفيذها للهجوم، إضافة إلى أن ضخامة الانفجار تجعل من المستحيل أن يحدث بسبب صاروخ فلسطيني.
كما تذكّر هذه المزاعم بادعاءات واشنطن عن أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير غزو العراق عام 2003 التي ثبت كذبها.
وتحاول الآن التنصل من الهجوم على المستشفى، فهل تيقنت من زيف الرواية الإسرائيلية؟
وبعد ساعات من تصريح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي دخلت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء، بعدما حصلت على ضوء أخضر أمريكي.
ولكن بعد تنبهها على ما يبدو لحجم التزييف حاولت الإدارة الأمريكية التنصل من الجريمة.
وقال كيربي، يوم الأربعاء، إن التصريحات الأمريكية في الليلة السابقة لم تكن بمثابة ضوء أخضر للعملية الإسرائيلية في الشفاء: "لم نمنح الموافقة على عملياتهم العسكرية حول المستشفى، بطريقة مماثلة لحقيقة أننا لا نعطيهم الموافقة". "موافقة على عملياتهم التكتيكية الأخرى".
ووصف الخبراء استراتيجية إدارة بايدن بأنها لافتة للنظر. وقال فينوكين: "إن خروج الولايات المتحدة ورفع السرية عن المعلومات الاستخبارية قبل عملية عسكرية محتملة، أو تبرير تلك العملية بطريقة ما، كان أمراً غير عادي إلى حد كبير"، حسب ما ورد في تقرير واشنطن بوست.
وقال بايدن إن مستشفيات غزة "يجب حمايتها"، حيث لا يزال أكبر مستشفيين في القطاع محاصرين بالقتال العنيف.
وقد قُتل أكثر من 11 ألف فلسطيني خلال 5 أسابيع فقط، كثير منهم من المدنيين في مدينة غزة، حيث يقع مجمع الشفاء. وتوقفت وزارة الصحة في غزة عن نشر أرقام محدثة لعدد القتلى يوم الجمعة، قائلة إن القتال وانقطاع الاتصالات جعل من المستحيل جمع المعلومات.
ولم يكن هناك شك في أن المستشفى كان بمثابة مركز رعاية أولية حتى دخول القوات الإسرائيلية، حسب واشنطن بوست.
لماذا أنفقت إسرائيل كل هذا الوقت والجهد على هذه الرواية التافهة؟
بدأت الادعاءات الإسرائيلية حول وجود حماس في مستشفى الشفاء وغيره من المستشفيات في الأيام الأولى للحرب. وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول، عقد الجيش الإسرائيلي مؤتمراً صحفياً حول هذا الموضوع. وقال هاغاري: "اليوم سأكشف عن معلومات استخباراتية تثبت أن حماس تستخدم المستشفيات كبنى تحتية إرهابية". وادعى أن مستشفى الشفاء يخفي مركزاً كبيراً للقيادة والسيطرة تابعاً لحماس، ويمكن الوصول إليه من خلال مداخل سرية إلى أنفاق تحت الأرض.
ثم عرض مقطع فيديو بالرسوم المتحركة صنعته إسرائيل لمحاكاة ما زُعم أنها أقبية تقع تحت المنشأة، حيث يفترض أن مسلحين ملثمين يقومون بدوريات في أحد الطوابق، والذي كان متصلاً بعدة مكاتب تحت الأرض. هذا مجرد مثال؛ وقال هاغاري: "لن نشارك هنا المواد الحقيقية التي بين أيدينا"، مضيفاً أنه تم تبادل المعلومات الاستخبارية مع الحلفاء.
المحلل الإسرائيلي يوسي ميلمان سلط الضوء على سبب تركيز إسرائيل على هذه الرواية الكاذبة، ملمحاً إلى أنها تريد تحقيق أي شيء تستطيع أن تدعي أنه نصر ملموس في الحرب.
إذ يقول بعدما تبين عدم وجود الأسرى والإرهابيين، حسب تعبيره، "الآن يقول المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إنهم دخلوا الشفاء لأنه رمز حماس، وتم العثور هناك أيضاً على أسلحة وخرائط وغرفة عمليات".
وتابع ميلمان: "هذا ليس مثيراً للإعجاب حقاً، وهل كان على مستوى التوقعات ويساوي ضرر الصورة الدولية" الذي لحق بإسرائيل جراء اقتحام المستشفى.
جيش الاحتلال يعلم أن حماس لا يمكن أن تتخذ من الشفاء مقراً قيادياً لهذه الأسباب
في الأغلب كان الجيش الإسرائيلي يعلم أن الشفاء لا يمكن أن يكون موقعاً عسكرياً، وأن الحديث عن كونه مقر قيادة عمليات حماس مسرحية تافهة، بعيداً عن الموانع الأخلاقية التي يحاول احتلال الزعم بأن حماس لا تأبه لها.
ببساطة لأن حماس لا تمتلك مقار قيادة بالشكل التقليدي، فحماس ليست جيشاً تقليدياً، ليكون لها مقر قيادة محصن يجتمع فيه قادتها حول طاولة عملاقة ويضعون عليه قبعاتهم العسكرية، على طريقة أفلام هوليوود، كما يتصور من أي جيش تقليدي.
حماس (وغيرها من الفصائل الفلسطينية مثل الجهاد) هي حركات مقاومة تعمل في ظل أكبر عملية رصد واستهداف في التاريخ من قبل قوات الاحتلال، رصد يتم بشكل يومي وبأحدث الأجهزة وبقايا شبكة العملاء.
عملت كل هذه القنوات على مدار عقود على التنصت على أدنى التحركات في غزة وليس فقط تحركات المقاومة فقط، والآن هذه المقاومة تتعرض لأكبر عملية قصف كثافةً بالنسبة للمساحة منذ الحرب العالمية الثانية على الأرجح.
وبالتالي افتراض أن حماس، بعد كل ذلك، لديها غرفة عمليات مركزية داخل أو أسفل مؤسسة معروفة ومطروقة من آلاف الأشخاص ومستهدفة من قبل إسرائيل منذ شهر هو افتراض يقوم على أن حماس حركة ساذجة، وعملية طوفان الأقصى تؤكد أنها ليست كذلك.
ولكن غرف عمليات حماس ليست حجرات محصنة، وعقول قادتها والخطط الاحتياطية التي وضعوها وعمليات الاتصال بينهم؛ تتم غالباً بطرق سرية وغير تقليدية دون اجتماعات كبرى لأنها تسهّل إمكانية استهدافهم.
حماس تدير عملياتها عبر انضباط صارم ومرن في الوقت ذاته، يقوم على طابع هرمي في أوقات السلم، وعنقودي في أوقات الحرب، يوفر لا مركزية كبيرة في اتخاذ القرار والإمداد والتموين في ظل سيطرة إسرائيل على سماء غزة وبعض أراضيها، تاركين لحماس ما تحت الأرض.
قوات حماس وأسلحتها وقادتها ليسوا في أماكن معروفة من التي تستهدفها إسرائيل، بل هم مختبئون في شبكة أنفاق مترامية الأطراف، قد يصل طولها لمئات الكيلومترات، وعمق بعضها يصل إلى 60 متراً، تسميها إسرائيل مترو حماس، وهي أعماق لا تستطيع القنابل الإسرائيلية الوصول لأغلبها، وهو الوضع الذي جعل معظم قوات المقاومة وبنيتها وقادتها في حالة سليمة رغم القصف الضاري، وهو أمر يظهر في قلة أسماء قادة المقاومة الذين أعلنت إسرائيل نجاحها في استهدافهم.
والافتراض الأكثر سذاجة هو أن إسرائيل لا تعلم كل ذلك، وأنها تدرك أنه يستحيل أن يكون الشفاء وغيره من الأهداف العامة المكشوفة والتي تستضيف آلاف الناس هي مقار لحماس.
فلماذا يصر جيش الاحتلال إذاً على استهداف المستشفيات والوكالات الدولية وغيرها من المؤسسات المدنية العامة، ولماذا أصرّ تحديداً على شيطنة مستشفى الشفاء وجعله العدو الأول له ولدولة الاحتلال، وسمح بشحن الإسرائيليين بهذا الشكل ضد مستشفى الشفاء.
ولكنه يريد انتقاماً مدوياً يشفي غليل صدور الإسرائيليين
هناك سببان، الأول هو أن هناك رغبة جامحة في الانتقام لدى الإسرائيليين من كل ما هو فلسطيني وغزاوي بعد طوفان الأقصى، وهو انتقام لا يفرق بين مقاوم ومدني وبين طفل وشيخ.
بل إن غريزة الانتقام توحشت لدرجة التركيز على استهداف هذه الأعيان المحرمة عادة في كل الحروب، يريد الاحتلال أن يشفي غليل الإسرائيليين بعد تعرضه لإهانة غير مسبوقة في تاريخه.
كما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يلملم أصوات الناخبين الذين فقدوا الثقة فيه بعد الفضيحة الأمنية في طوفان الأقصى.
ويرغب في نصر ملموس في ظل صعوبة القضاء على المقاومة
أما السبب الثاني، أن الجيش الإسرائيلي يريد ادعاء نصر ملموس في ضوء حقيقة أنه جعل القضاء على حماس هدف الحرب الأساسي، وهو هدف لن يتحقق على الأرجح ببساطة لأنه لا يرى حماس ولا الجهاد حتى الآن.
فرغم توغل الاحتلال واسع النطاق في شمال غزة، فإن بنية المقاومة سليمة لحد كبير، وهي تكبده خسائر كبيرة خاصة في المدرعات، وهي تختار توقيتات وأماكن الهجمات بما يلائم قدراتها، وبشروطها وليس بشروط الاحتلال.
ويعني ذلك أن الحرب قد تطول وقد لا تنال تل أبيب مشهد النصر الذي تريده، والذي تستطيع فيه أن تدعي هزيمة حماس بدخول مقراتها وتدمير رموزها، مثلما فعلت الولايات المتحدة عند غزوها العراق عام 2003، ودخلت خلاله في التاسع من أبريل/نيسان 2003، قصور صدام حسين، وصورت عملية تحطيم تماثيله لتكون أيقونة النصر الأمريكي الذي سرعان ما تبين أنه غير حقيقي.
فحماس ليست دولة تمثل المقار أهمية مركزية لديها؛ بل هي حركة بها عشرات الآلاف من المؤمنين بأفكارها المستعدين للتضحية بحيواتهم من أجل وطنهم، ومئات الآلاف من المؤيدين الذين يمثلون حاضنتها الاجتماعية، هذه مقرات حماس التي يستحيل غزوها، حتى بعد تعرض الفلسطينيين لواحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ المعاصر.
وحتى لو اغتالت إسرائيل عدداً من كبار قادة حماس، فلقد خسرت الحركة من قبلُ الصف الأول من قيادتها في وقت كانت فيه أصغر حجماً، مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة والمهندس يحيى عياش ومحمود أبو هنود، ورغم ذلك ازدادت الحركة عدداً وعدة، وطورت قدرات وخبرات صدمت أصدقاءها قبل عدوها، وأصبحت حركة مؤسسية لا تعتمد على فرد أو مجموعة أفراد، ولا مقار ثابتة، وبالتالي كيف تستطيع إسرائيل هزيمة ما لا تراه؟
ولأن إسرائيل تعلم أن الحرب قد تنتهي بوقف إطلاق نار دون القضاء على حماس؛ فإن نتنياهو وجيش الاحتلال يريدان تحقيق انتصار أو بالأحرى تدمير أهداف مادية ملموسة ليرضي الجمهور المتعطش للدماء، فلم يجد في غزة المسكينة هدفاً أكبر حجماً وأكثر ضعفاً من مستشفى الشفاء، ولكنه انتصار رخيص يخفي خوفه من الفشل في النهاية.
واليوم مع تبين الداخل الإسرائيلي لكذب رواية حكومته وجيشه عن مستشفى الشفاء، فإن هذه الرواية قد تتفجر في وجه مفبركيها.