عالم ما بعد حرب غزة... إسرائيل المنبوذة
العالم قبل الحرب على غزة، لن يكون هو نفس العالم وأسواقه واهتمامات مستهلكيه بعد انتهاء الحرب التي لا يعرف أحد مداها الزمني ومدى اتساع نطاقها، والكلفة الحقيقية لها، وحجم الخسائر التي سيتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي وشركاؤه التجاريون خاصة في آسيا ومنطقة الخليج.
Table of Contents (Show / Hide)
قبل الحرب لم يكن العالم يعرف كثيرا ذلك الوجه الإجرامي الخشن والعنصري للاحتلال الإسرائيلي، ولم يكن يسمع عن مقاطعات واسعة للمنتجات والسلع الإسرائيلية في أسواق العالم.
ولم يكن يدرك حجم الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه الدول الغربية المؤيدة للاحتلال لمساعدته في حربه الإجرامية، ولم يعرف من قبل انطلاق حملات مقاطعة جماعية لسلع ومنتجات تلك الدول التي تدعم الإبادة الجماعية والعنصرية والقتل في غزة.
ولم يكن يتخيل العالم أن شركات عالمية كبرى بحجم "ستاربكس" يمكن أن تتعرض لمقاطعة شديدة بسبب مواقفها الداعمة للاحتلال، وأن تخسر 13 مليار دولار في أقل من شهر بسبب المقاطعة، أو يسمع عن خسارة شركات متعددة الجنسيات مليارات الدولارات بسبب موقفها المؤيد للاحتلال في حربه الوحشية على أطفال ونساء غزة.
كل ما كان العالم يعرفه هو أن دولة اسمها إسرائيل تعد واحة الديمقراطية والاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، دولة تقع وسط محيط مكون من دول بائسة يحكمها مستبدون وبها شعوب تخضع لحكم بالحديد والنار والانقلابات العسكرية.
دولة لديها جيش لا يقهر وقبة حديدية وأحدث أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية ومخابرات تعد الأقوى في العالم، ولديها أيضا مناخ جاذب للاستثمارات الخارجية خاصة في مجال التقنيات المتطورة والتكنولوجيات الحديثة والصناعة، وأن صادراتها البالغة 160 مليار دولار تغزو العالم وقد تفوق قيمتها صادرات معظم الدول العربية غير النفطية مجتمعة.
لكن بعد الحرب على غزة اكتشف العالم ذلك الوجه الهمجي للاحتلال، عرف عن قرب دولة لا تختلف كثيرا عن ألمانيا ــ هتلر وإيطاليا ــ موسوليني والاتحاد السوفييتي أيام ستالين ولينين وغيرهما من الطغاة، بل قد تفوق تلك التجارب التعسة بشاعة وقتلا وإجراما.
دولة وحشية تقتل الأطفال والنساء وتدمر المدارس والمستشفيات والبنية التحتية ويفر جنودها أمام أفراد المقاومة، تاركين زملاءهم ما بين قتلى وجرحى وأسرى، وتعجز آلتها العسكرية عن استهداف المقاومة أو حتى الوصول لأنفاق غزة وتدميرها.
عرف العالم الحر أن إسرائيل المتوحشة ما هي إلا دولة رخوة منبوذة، أقرب ما تكون ببيت العنكبوت الذي تعرض لهزيمة منكرة ومذلة خلال ساعات عدة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من قبل أفراد لا يتجاوز عددهم 1500 مقاتل، وأنها الدولة القمعية الأشرس في العالم، وأن كل مواطن فيها عضو في جيش الاحتلال.
دولة تعيش على العنف وسفك دماء المدنيين العزل، دولة تفشل في حماية مطاراتها وعاصمتها ومدنها الرئيسية وموانئها على البحر الأحمر رغم تزويدها بأعتى أنواع الأسلحة من قبل داعميها وفي المقدمة الولايات المتحدة.
دولة تهاوى اقتصادها بسبب الحرب البالغة تكاليفها حتى الآن ما يزيد عن 54 مليار دولار، أي ما يعادل 200 مليار شيكل، ومعها تهاوت الأنشطة الاقتصادية من سياحة وطيران واستثمار مباشر ومقاولات، وأسواق مال وخدمات وغيرها.
العالم بعد غزة عرف ظهور موجات من الشعوب الحرة التي تعرفت عن قرب على جرائم جيش الاحتلال، هذا العالم الحر عرف كيف يوجع الاحتلال وداعميه، وأن يرغم المطبعين والصهاينة العرب على الاختباء في جحورهم وإخفاء مشروعات التطبيع الضخمة التي كانت تستهدف إنعاش خزانة إسرائيل ودعم فرص النمو الاقتصادي بدولة الاحتلال وتوفير الرفاهية للشعب الإسرائيلي، وتحويل المستوطنات المحتلة إلى بؤر لجلب الاستثمارات الخارجية والفرص الصناعية الواعدة.
رأينا في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا كيف تخرج المظاهرات المليونية المناهضة للحرب على غزة.
وكيف أن دافعي الضرائب الأميركان باتوا يعترضون على تقديم كل هذه المساعدات الضخمة والشيكات على بياض لدولة مجرمة لا تستطيع حماية نفسها، وأن كل ما فعله جيشها هو قتل آلاف الأطفال والنساء في غزة والضفة الغربية والقدس، رأينا كيف يتم الاعتراض داخل الكونغرس الأميركية على المساعدات السخية المقدمة للاحتلال وجيشه.
رأينا موظفي شركات كبرى يخرجون علينا ببيانات قوية تؤيد القضية الفلسطينية، ولا يخشون تهديدات الإدارة لهم بالفصل من وظائفهم. وكيف سارعت قيادات شركات كبرى وعلامات تجارية مرموقة للتبرؤ والاعتذار عن قرار دعم فروعها داخل إسرائيل لجيش الاحتلال.
رأينا كيف أن العالم بات يردد مرة أخرى اسم فلسطين ويتعرف بقضيتها، وأن الشعوب العربية التي آمنت بقوة المقاطعة بدأت تبحث عن المنتج المحلي بسبب مقاطعتها لمنتجات وسلع الدول والشركات الداعمة للاحتلال، وكيف أن الشركات في المنطقة بدأت استغلال تلك الموجة في تحسين جودة منتجاتها.
عالم ما بعد غزة ربما يشهد خريطة جديدة للأسواق العالمية، اهتمامات جديدة للمستهلك بعيدا عن السلع الإسرائيلية، مقاطعة متواصلة لسلع الاحتلال ومنتجاته.
إعادة النظر من قبل الشركات في خريطة الاستثمار داخل إسرائيل، بعد أن كانت مولعة بهذا النوع من الاستثمار والنظر لإسرائيل على أنها المكان المفضل والبيئة المناسبة للمستثمرين الدوليين.
عالم ما بعد غزة قد يدفع دولا وحكومات نحو إعادة النظر في مشروعات التطبيع الكبرى سواء التي تم الاتفاق عليها أو كان يجري الحديث والتخطيط بشأنها، وبالتالي قد لا نسمع المستقبل المنظور عن خطط تشييد سكك حديد تربط بين دول الخليج وموانئ إسرائيل على البحر المتوسط.
وقد لا يرى مشروع أنبوب النفط الذي ينقل النفط الخليجي لأوروبا عبر دولة الاحتلال النور، وقد يتأجل تسيير خطوط الطيران بين عواصم عربية وخليجية وتل أبيب.
عالم ما بعد غزة بات شديد الوضوح، وعلى درجة عالية من الشفافية للجميع بمن فيهم المستثمرون الدوليون وأصحاب الأموال وبنوك وصناديق الاستثمار والشركات متعددة الجنسيات.
فعملية الخداع التي مارستها إسرائيل على الكل طوال نصف قرن، وأنها بيئة الاستثمار المناسبة لأصحاب الأموال باتت لا تنطلي على أحد في ظل زيادة المخاطر الجيوسياسية التي ستمر بها إسرائيل لسنوات طويلة، وحالة الغموض واللايقين التي خلقها طوفان الأقصى لدولة الاحتلال.
عالم ما بعد غزة مليء بمخاطر السمعة والضبابية لدولة الاحتلال، وهي المخاطر الطاردة للاستثمار الأجنبي والمحلي على حد سواء، مخاطر ستعمق خسائر الاقتصاد الإسرائيلي وداعميه.
المصدر: الخليج الجديد