“السعودية” والقضية الفلسطينية والحرب على غزة
يكثر اللغط عند الحديث عن الموقف السعودي من الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام. وهذا ليس بالأمر الطارئ، إذ إن الموقف السعودي كان منذ وائل القرن العشرين مصحوباً بكثير من التأويل والحيرة والتشكيك من قبل الباحثين والمراقبين والجمهور العربي بشكل عام.
Table of Contents (Show / Hide)
فتحت الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة هذا الملف من جديد، ولا يزال التشكيك في النيات السعودية وخطابها الرسمي المناصر شكلياً لغزة موضع شك وتنديد، وخاصة من قبل بعض الجماهير العربية والمعارضة السعودية.
فالكل يطرح علامات استفهام عن جدّية الموقف السعودي العلني المناصر لفلسطين، وغزة بالتحديد، وخاصة أن الحديث عن جسور جوية تمدّ الإمدادات لإسرائيل قد مرّت في الأجواء السعودية.
فضلاً عن مشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي والذي وصل إلى مرحلة شبه نهائية قبل العدوان الإسرائيلي في شهر أكتوبر من العام المنصرم، حسب تصريح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
جاءت رغبة السعودية في الانضمام إلى الإمارات والبحرين لتشعل الشك من جديد في صدقية الموقف الرسمي السعودي تجاه غزة. واتهمت وسائل الإعلام السعودية حركة «حماس» بأن اختراق الجدار الإسرائيلي العازل وإشعال الحرب جاء عنوة ليقوّض التهافت السعودي على التطبيع وخنق المبادرات الديبلوماسية الأميركية الهادفة إلى رفع العلم الإسرائيلي على سفارة إسرائيلية في قلب العاصمة الرياض .
وكانت الرياض تنتظر الخطوة الأخيرة لإمرار مشروع التطبيع، وهي الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة التي تهدف إلى ضمان أمن السعودية داخلياً وخارجياً وتوفير السلاح المعتاد دون العقبات التي يفرضها الكونغرس حالياً. جاء هجوم «حماس» ليعرقل هذا المشروع من دون أن يلغيه تماماً، حيث لا تزال السعودية ملتزمة بمشروع التطبيع حين تحين الفرصة المناسبة وربما لتكون الفرصة مرتبطة بمصير غزة بعد هذه الحرب المدمرة.
جاءت الحرب الإسرائيلية، وما تلاها من قتل عشوائي وتدمير للبنية التحتية وانتهاك لقوانين الحرب الدولية، كصدمة للقيادة السعودية التي كانت على خطوات صغيرة جداً من هدف التطبيع ساعة رضوخ الولايات المتحدة وإدارة جو بايدن للمطالب السعودية في مجال التسليح وحماية العرش السعودي مقابل الاعتراف بإسرائيل والتطبيع العلني مع إسرائيل بعد أكثر من نصف قرن من التعامل السرّي مع العدوّ الصهيوني والتبادل الأمني والاستخباري الذي بدأ في الستينيات من القرن المنصرم، وخاصة في حقبة عبد الناصر والحرب في اليمن، حيث كان التعاون مع إسرائيل يمرّ عبر المخابرات الإسرائيلية والسعودية حسب دراسة للباحث الإسرائيلي والمؤرخ إيلي يوده المطّلع على أرشيف «الموساد» خلال تلك الفترة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: لماذا السعودية هي الدولة العربية ربما الأكثر تعرضاً للتشكيك في موقفها من القضية الفلسطينية، رغم الحقائق التاريخية التي تؤكد التزام القيادة السعودية بدفع مستحقات كبيرة للمنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال منذ الستينيات وتسليح فصائل متعددة واستيعاب عدد كبير من اليد العاملة الفلسطينية المهجّرة قسرياً منذ حرب 1948؟ لماذا تطغى لغة التخوين والاتهام عند الحديث عن الموقف السعودي تاريخياً وحالياً من القضية الفلسطينية؟
هناك عدة أسباب، تاريخية وحالية، متعلقة بالموقف السعودي الآن ودور قيادة وليّ العهد محمد بن سلمان خلف استمرارية التشكيك بصدق النيات السعودية والسياسات التي أعلنتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية. هذه الأسباب تقف خلف الاتهامات التي تصل حدّتها إلى درجة الاتهام بالخيانة وتحقيق المكاسب السياسية على أنقاض المأساة الفلسطينية.
1) لنبدأ بالتاريخ، حيث اتضح لنا أن الموقف السعودي من القضية الفلسطينية كان مرتبطاً خلال الثلاثينيات بعاملَين: الأول هو الهيمنة البريطانية على القرار السعودي، والثاني هو الهواجس السعودية من الحكم الهاشمي في الأردن.
فالعامل الأول جعل قيادة الملك عبد العزيز بن سعود تتوجس من استفزاز بريطانيا بأيّ عمل علني نصرة للثورة الفلسطينية في الثلاثينيات، حيث جاءت مراسلات الملك لتؤكد عدم رغبة السعودية في إثارة القلاقل والشغب في فلسطين ومن ثم أكدت القيادة أنها تعارض الهجرة اليهودية وكررت ذلك للإدارة الأميركية خلال المرحلة التي سبقت نكبة 1948.
لكن كان التأكيد السعودي يطلب من بريطانيا ضمانات ضد أيّ عدوان هاشمي على أرضها مقابل الموقف الفاتر والبارد تجاه الاحتلال الصهيوني، فكانت المعادلة بسيطة حيث تلتزم السعودية بعدم تأجيج الموقف المناهض للصهيونية ومشروعها مقابل التزام بريطانيا، وبعدها الولايات المتحدة، بأمن السعودية، وهو أيضاً الموقف السعودي الحالي الذي يؤكد استمرارية هذه المعادلة، وهو الموقف المسيطر على الذهنية والاستراتيجية السعودية منذ الثلاثينيات حتى هذه اللحظة.
وهذا الموقف التاريخي يفسر لنا كيف تعاطت السعودية مع القدس ورمزيتها حيث كانت لا تريدها غنيمة للقيادة الهاشمية التي خسرت مكة وعملت جاهدة على عدم خروج الأمر إلى درجة أن تكسب القيادة الهاشمية رمزية خاصة تنقص من أهمية هيمنة السعودية على الأماكن المقدسة في بلاد الحرمين وما يتبع ذلك من دور قيادي على مستوى العالم العربي والإسلامي.
وظهر ذلك واضحاً في مراسلات الملك عبد العزيز مع بريطانيا، حیث کان هاجسه الأول هو تعرّض بلاده لأيّ عدوان من قبل الهاشميين مدعوم من بريطانيا. فكان يحاول عدم استفزاز بريطانيا والتملّق لها كي تكبّل الهاشميين وتقضي على أيّ حلم في العودة إلى ديارهم في الحجاز.
أمّا الآن، فقد تغيّر الوضع بعد أواصر الصداقة والتبعية بين الحكم الأردني والسعودي، وهذا يفسّر فتور الرد السعودي على نقل عاصمة إسرائيل أخيراً إلى القدس، حيث اكتفت السعودية عن طريق الملك سلمان برفض الخطوة الإسرائيلية وعدم الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، وظل الحاكم الفعلي السعودي وليّ العهد محمد بن سلمان صامتاً وكأن الأمر لم يحدث.
٢) بعد فترة ما قبل النكبة، جاء خطاب القومية العربية، بشقَّيها الناصري والبعثي، فى الستينيات، ليشكك في الدور السعودي تجاه فلسطين، متهماً النظام السعودي بالعمالة للإمبريالية الأميركية والغربية وحليفتها الصهيونية، ليضع السعودية في قفص الاتهام رغم الموقف السعودي المعلن تجاه فلسطين والبترودولار الذي دفعته السعودية مناصرة للمقاومة المسلحة الفلسطينية.
ورغم الانهيار للخطاب القومي بعد هزيمة ١٩٦٧، إلا أنه لا يزال موجوداً في ذهنية العرب ويتبنّاه الكثير من المراقبين والمعنيين بالشأن الفلسطيني والدور السعودي الذي يحاول كسب الغنيمة على ظهر القضية الفلسطينية والتسلق على مأساة فلسطين من أجل مكاسب تخصّ القيادة السعودية نفسها. ولهذا، لا يزال التشكيك في النيات السعودية قائماً، رغم موقفها اللاحق الذي استعمل النفط والمقاطعة عام 1973 نصرةً لمصر، مستعملاً سلاح النفط لأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية.
٣) عامل آخر يؤجج التشكيك بالموقف السعودي تجاه فلسطين هو السرية السعودية وعدم الشفافية، وكلاهما يجعلانها موضع الشك والاتهام بالمؤامرة، ويطغى هذا الشك على أيّ تحليل عقلاني مدعوم بالأدلة على التزام السعودية بالقضية الفلسطينية.
ويبدو ذلك مرتبطاً ببعض الحقائق التي تظهر علناً بين الحين والحين لتفضح الهوّة بين الخط الرسمي السعودي المعلن وما تفعله القيادة سرّاً ويشمل ذلك عقوداً من التعاون الإسرائيلي السعودي الأمني والاستخباري والتكنولوجي، والذي بدأ منذ 1962 عند اندلاع الحرب في اليمن، وانتهاءً بالتقارب بين الدولتين ضد عدوّ مشترك وهو إيران، فضلاً عن اللقاءات السرية منذ ١٩٩٠ بين القيادة السعودية ونظيرتها الإسرائيلية، والتي لا يعرفها الشارع السعودي والعربي إلا من خلال الصحافة الإسرائيلية فقط، ويظلّ التعتيم السعودي عليها سيد الموقف.
ورغم تأكيد القيادة السعودية التزامها بالقضية وحلّ الدولتين وعودة اللاجئين الفلسطينيين، حسب المبادرات السعودية العربية خلال حكم الملك فهد وبعده الملك عبد الله، إلا أن السرّية السعودية تجعل المراقب لموقفها مهووساً بفكر المؤامرة والسرّية. من هنا، نستطيع أن نفهم استمرارية التشكيك بالدور السعودي وموقفها من القضية الفلسطينية تاريخياً والحرب على غزة الآن.
٤) وفي الحقبة الحالية، نجد أن الحرب الإسرائيلية على غزة كشفت الموقف السعودي المعادي للحركات الإسلامية ليس فقط في الداخل السعودي، بل في المحيط العربي، ومن هنا يأتي الموقف السعودي من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ليجعل السعودية ضمنياً تغضّ النظر عن العدوان الإسرائيلي، وخاصة أنه يستهدف آخر معاقل الإسلام السياسي والتي حاول محمد بن سلمان التخلص منها في السعودية ذاتها.
فمنذ صعود نجم محمد بن سلمان، وهو ملتزم بتصفية الإسلام السياسي الذي يراه خطراً سياسياً واقتصادياً ليس فقط في السعودية بل أيضاً في فلسطين حيث تظلّ غزة آخر معاقل المقاومة والعقبة الأخيرة في طريق حلّ دائم للقضية الفلسطينية، حسب الإرادة الإسرائيلية، وحينها لن يجد وليّ العهد أيّ حرج في مشروع التطبيع مع إسرائيل، والذي قوّضته «حماس» منذ 7 أكتوبر.
ولا يؤمن محمد بن سلمان بفكر المقاومة، بل يرى أن الديبلوماسية تحت مظلة أميركية كفيلة بحل المعضلة الفلسطينية – الإسرائيلية على غرار اتفاقيات سابقة كأوسلو وتطبيقها كما طبقت في الضفة الغربية. فهو يعوّل على سلطة فلسطينية تدير الشأن الفلسطيني المحلي من دون طرح ملفات السيادة الفلسطينية والدولة المستقلة.
وردّد وزير الخارجية السعودي خلال الأشهر الستة السابقة التزام السعودية بحل الدولتين من دون الدخول في تفاصيل حرجة، ورغم رفض نتنياهو حتى الحديث في هذا الموضوع أو الرغبة في طرحه مستقبلاً. لهذه الأسباب السابقة الذكر، يبدو الدور السعودي والموقف المتذبذب خلال الحرب على غزة مثيراً لموجات التشكيك والتخوين من قبل الكثيرين في العالم العربي وما بعده. وما يزيد الطين بلّة هو التغيير الداخلي في السعودية، حيث بدأت القيادة تبتعد عن استجداء الشرعية من خلال مناصرة القضايا العربية والإسلامية وتبنّي خطاب السعودية والمال السعودي للسعوديين. من هنا، نفهم لماذا لم تثر قضية نقل العاصمة الإسرائيلية إلى القدس إلا بعض الاستياء من قبل الملك سلمان وبقي وليّ عهده صامتاً تجاه الموضوع.
النقلة السعودية من استجداء الشرعية العربية والإسلامية إلى الشرعية المحلية الاقتصادية والتنموية، تفسّر ابتعاد السعودية كقيادة عن القضية الفلسطينية وتعقيداتها، وترى هذه القيادة أن الهمّ الفلسطيني والاهتمام به کمحور في السياسة الخارجية قد يتعارض مع مصلحتها وأمنها القومي الذي يوفّره عدم الاصطدام مع واشنطن، بل التقارب مع إسرائيل.
ونجد أنه في المستقبل القريب والبعيد ستظل السعودية فاترة كقيادة تجاه الملف الفلسطيني، ويتعارض ذلك مع الموقف السعودي الشعبي الذي بأغلبيّته يبقى ملتزماً بالقضية رغم وجود بعض الأصوات المتعالية في الصحافة الرسمية التي تتهم «حماس» والفلسطينيين بشكل عام في مسؤوليتهم عن استمرارية الوضع المأسوي والاحتلال الإسرائيلي. ولا يبدو لنا أننا سنواجه موقفاً أو دوراً سعودياً رسمياً بارزاً خلال الحرب الحالية،
إذ إن السعودية تنتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب لتعيد المفاوضات الهادفة إلى التطبيع على الطاولة تحت مظلة رئيس أميركي وإدارة أميركية جديدة. فالهدف السعودي هو التطبيع مع إسرائيل مقابل اتفاقيات أمنية مع الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن مكاسب فلسطينية حقيقية. وستظلّ التصريحات السعودية الرسمية تصبّ في مصلحة الأمن القومي السعودي لا في مصلحة المصلحة الفلسطينية. وإنْ تطابق الهدفان فهذا أمر جيّد، لكن إن تضاربا فالمصلحة السعودية هي سيّدة الموقف.
المصدر: مرآة الجزيرة