وهو التغيير الذي عبّر بمدة قياسيّة عن مدى هشاشة النظام السعودي وتفكّك مؤساساته وانعدام توزيع السلطات فيه بل انحصارها بمزاجية “الملوك” و”أولياء العهد”. أهم ما صعد خلال التغيير الذي أُرسيَ بالقوة على المجتمع “السعودي” بالدرجة الأولى كان إطاحة صورة أن البلاد بسياساتها ووجودها تُعبّر عن المصالح العربية والإسلامية –وفق الصورة التي عُمل على تثبيتها لفترة طويلة من الزمن- ليُستبدل بـ”السعودية أولاً”.
وكان لهذا التحوّل السريع والمفاجئ إرتداداته التي تمثّلت أولا بضبابية الموقف السعودي، وهنا الضبابية ليست ضبابية النوايا ولكن على صعيد المواقف السياسية المُعلنة. على سبيل المثال منذ عملية “طوفان الأقصى” والإبادة الجماعية التي تبعتها وتوسع إطار الحرب مع تدخّل جبهات المساندة، لم تُبدِ البلاد مواقف صارمة بما يتعلق لا بوقف الإبادة الجماعية ولا بإدانات صريحة لحركات المقاومة سواء في غزة نفسها أم باقي الجبهات.
والضغط الذي كان ولا يزال حاضراً في الذهن السعودي حيال اختلاط أوراق مصالحها، كان لعدم جهوزية واستعداد “سعودية ابن سلمان” لمواجهة هذه الأحداث بقرارات تحفظ تواجدها خلف حدود الاشتباك المباشر مع أي فصيل مقاومة، وخاصة مع حركة أنصار الله في اليمن، وأن تحفظ في الوقت نفسه الصورة التي لم تخرج منها بعد وهي الصورة التي جعلت اللاوعي العربي يعوّل عليها في تقديم الحلول أو حتى إبداء موقف حازم ولو على صعيد المواقف الشفهية أو البيانية.
لكن ما جرى منذ طوفان الأقصى أظهر أمام العالم العربي موقفا سعوديا مراوغا، لا يجرؤ على رفع حدة الخطاب بما يدين أعمال كيان الاحتلال في غزة، وذلك لاعتبارات أهمها ما سبق الطوفان من محادثات حثيثة ومركّزة حول تطبيع العلاقات وهو ما ظهر جليا في حوار ابن سلمان على شبكة فوكس نيوز حين أكد أن “الإعلان عن التطبيع يقترب أكثر وأكثر”، ولا هو يجرؤ على إدانة العمليات سيما عمليات القوات اليمنية المسلحة ضد حركة الملاحة الإسرائيلية لما حصلت عليه هذه العمليات بالتحديد من شعبية وتأييد جماهيري واسع حتى في الداخل السعودي نفسه، فكان من الصعب على “السعودية” تسجيل مواقف بما هو أبعد من التنبيه من مخاطر نشوب حرب إقليمية وما سواها من التصريحات المحايدة والتي تدعو “جميع الأطراف” لضبط النفس.
وأما مسألة الإبقاء على باب التفاوض مفتوحا للتوصل إلى صفقة تطبيع مع الكيان، إلى جانب الإبقاء على الصمت مع كل حديث يُتداول حول اجتماعاتها مع مسؤولين صهاينة، كالخبر الذي نقلته وسائل إعلام أجنبية عن لقاء سري جمع رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي مع شخصيات عربية كان من بينها شخصية سعودية. حتى أنها لم تضبط تصريحات مسؤوليها ليبقى على وتر “الحياد”، فكان أن ظهر وزير خارجيتها فيصل بن فرحان بعدة تصاريح كانت كفيلة بإثارة الغضب الشعبي عليه، على سبيل المثال حين توجّه للكيان بالنصيحة بضرورة إيقاف حربه وذلك “لأجل وجود الكيان”.
أدان نائب وزير الخارجية السعودية مؤخرا خرق السيادة الإيرانية التي حصلت من خلال اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية.
وقال وليد الخريجي أن ” الاغتيال يعدّ انتهاكا صارخا لسيادة إيران، وأنها ترفض أي اعتداء على سيادة الدول”، وذلك خلال الاجتماع الاستثنائي للجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي في جدة يوم الأربعاء الماضي. هذا ويُقرأ الإجتماع ككلّ كما المواقف التي سُجّلت؛ على أنها تقع ضمن سياق إعطاء الجمهورية الإسلامية في إيران حقها شفهيا ولكن ما تحت الطاولة عمليا هو نقل رسائل أميركية بعدم التصعيد بردّ لا يجرّ المنطقة إلى حرب أو حتى مطالبتها بعدم الرد على الإطلاق.
وكانت “السعودية” قد أبلغت إيران عن عدم تسامحها مع استخدام مجالها الجوي في أي رد تنوي إيران الإقدام عليه، وفقا لوكالة رويترز. لكن يُطرح أمام هذا التبليغ مسألة الموقف المقابل من طائرات العدو وطائرات الولايات المتحدة الأميركية، وهو الأمر الذي بات مؤكدا بأن كلا من “السعودية” والإمارات والأردن وسواها من الدول المطبعة تؤهّل بالطيران المعادي لاستخدام مجالهم الجوي لضرب إيران.
لا يحسد أحدا “السعودية” على موقفها في هذه الظروف، ليس لصعوبته عليها ولكن لصعوبته على أي “نظام” نسج لعقود روايات انتمائه لقضايا الشعوب العربية، وعلى أساس هذه الرواية كان تدخله في سوريا وإرساله الملايين لتنظيم داعش الإرهابي، وعلى أساسها موّل كيانات عميلة في لبنان، وعلى أساسه أفقر اليمن شعبا وحكومة، واليوم على أساس الرواية عينها يزعم أنه مقبل على صفقة تطبيع مع “إسرائيل” مقابل أكذوبة حلّ الدولتين التي ستقضي على حق الشعب الفلسطيني في أرضه كاملة.
مرآة الجزيرة