غوانتانامو.. عار أمريكا الشنيع المستدام
في لندن تشكلت مؤخراً مجموعة برلمانية باسم «إغلاق منشأة اعتقال غوانتانامو» متعددة الأحزاب لأنها تضمّ أعضاء في مجلس العموم من مختلف الأحزاب البريطانية، بما في ذلك حزب المحافظين الحاكم؛ هدفها، الأوحد تقريباً، هو ما يعلنه اسمها بصدد المعتقل الأمريكي الذي قد يكون الأسوأ سمعة في أيّ نظام يزعم الاستناد على منظومات القضاء الحرّ والمستقل.
Table of Contents (Show / Hide)
وقبل أيام عقدت المجموعة اجتماعاً دعت إليه عدداً من المشتغلين بالقانون وحقوق الإنسان، فضلاً عن اثنين من معتقلي غوانتانامو السابقين: معظّم بيك، البريطاني من اصل باكستاني ومؤلف الكتاب الشهير «محاربٌ عدو: اعتقالي في غوانتانامو وباغرام وقندهار» 2006؛ ومحمدو ولد صلاحي، الذي كتب «مذكرات غوانتانامو» وألهم الفيلم الهوليودي «الموريتاني» 2016.
قبلئذ، في في نيسان (أبريل) هذه السنة، كان باتريك هاملتون، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الولايات المتحدة وكندا، قد قام بزيارة إلى معتقل غوانتانامو أصدر بعدها بياناً رسمياً يطالب سلطات المعتقل الأمريكية بسلسلة من الإجراءات التي تحسّن ظروف الاحتجاز في الحدود الدنيا داخل المعتقل.
وكذلك شروط تواصل المعتقلين من أقربائهم في الخارج، خاصة مدد المكالمات الهاتفية بالنظر إلى استمرار منع الزيارات؛ فضلاً عن ضرورة الإسراع في تجاوز الاستعصاء السياسي والإداري بصدد مسؤولية نقل المعتقلين المستحقين وتقرير مصير جميع المعتقلين الآخرين.
وكتب هاملتون، بنبرة لا تغيب عنها روحية التهذيب واللباقة بالطبع: «ندعو الإدارة الأمريكية والكونغرس إلى العمل معاً لإيجاد حلول ملائمة وفعالة لمعالجة هذه المسائل. يتوجب اتخاذ الإجراءات العاجلة وذات الأولوية. وإذا كان وارداً الإبقاء فترة أطول حتى لعدد قليل من السجناء، فإنّ التخطيط لأوضاع كبار السنّ بينهم لا يمكن أن يحتمل الانتظار».
قبل اجتماع لندن وزيارة هاملتون، في آذار (مارس) هذه السنة أيضاً، صدر تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حول «تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب»؛ الذي رفعته إلى المجلس فيونوالا ني أولاين، المقررة الخاصة.
وإذْ يذكّر التقرير بتوصيات سابقة تعود إلى سنة 2010، بصدد حالات واضحة لارتكاب جرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية، فإنه يسجّل المزيد من الإخفاق في تكرار الممارسات ذاتها، وتكريس الإفلات من العقاب، والإمعان في تنويع أشكال التعذيب المنهجي، والحرمان من أبسط الحقوق الأساسية، والتحايل على الحماية القانونية المطلوبة، وتطبيع الاحتجاز الجماعي دون إجراءات قانونية… وكلّ هذه الانتهاكات، وسواها كثير أوسع نطاقاً وتنويعاً، تتمّ تحت ستار مكافحة الإرهاب؛ كما يقول التقرير.
يًذكر هنا أنّ ثلاثة رؤساء أمريكيين، جورج بوش الابن (نفسه مؤسس المعتقل، وسجّانه الأبرز) وباراك أوباما وجو بايدن، تناوبوا على قطع الوعود بإغلاق المعتقل؛ وتذرّع كلّ منهم بهذا المقدار أو ذاك من الأسباب للتملّص من التعهدات، حتى بعد صدور فتوى المحكمة العليا في الولايات المتحدة (بأغلبية 5 إلى 4 فقط، مع ذلك!) حول الحقوق القانونية للمعتقلين بصدد مراجعة المحاكم الفدرالية ونقض قانونية المحاكم العسكرية وإلزام الحكومة الأمريكية بتقديم موجبات التوقيف خارج إطار التذرّع بدواعي الأمن القومي.
ولهذا فإنّ المعتقل يواصل البقاء كوصمة عار صريحة وفاضحة، مستدامة ومفتوحة، هي الأشنع حتى إشعار لا يلوح البتة أنّ نهايته وشيكة، من جهة أولى؛ كما لا يتوفر أساس سياسي، مرتكز إلى قانون مُلزم بالتالي، يتيح للكونغرس والبيت الأبيض (مجلس الأمن القومي، وزارة العدل، والبنتاغون…) حلّ سلسلة الاستعصاءات التي تكتنف مشاريع إغلاق غوانتانامو، من جهة ثانية.
ليست أقلّ مدعاة للعجب حقائق العدد الفعلي الراهن للمعتقلين، وتصانيف أوضاعهم «القانونية» وما يترتب على ما تبقى في المعتقل من تدابير ذات صلة بما عُومل به أقرانهم الذين غادروا في السابق.
زنازين غوانتانامو تحتجز، اليوم، 30 معتقلاً فقط؛ 16 منهم لم تُوجّه إليهم أيّ تهم بتشكيل أخطار أو تهديدات على الأمن القومي الأمريكي، ومع ذلك يتواصل احتجازهم، وقد يتقرر في أيّ وقت ترحيلهم إلى وجهة ما خارج غوانتانامو والولايات المتحدة.
وقد تكون أيّ دولة أخرى بالإضافة إلى الإمارات، كازاخستان، سلوفاكيا، صربيا… 3 سجناء في حال معلّقة عند فراغ قانوني مطلق: لا اتُهموا بتهمة من أيّ نوع، ولا تمّت تبرئتهم من أية جناية.
10 سجناء ينتظرون المحاكمة، ولا أحد يعرف متى وأين ولماذا؛ وسجين واحد حُوكم وأُدين، ولكنه يبقى قيد الاعتقال إلى مدّة غير محددة. ومجموعة لندن البرلمانية، مثل دعاة المنطق البسيط السليم والحدود الدنيا لأصول المقاضاة وسيادة القانون، تطرح السؤال البسيط: حتام يبقى الـ16 موقوفاً قيد الاعتقال، وماذا ينتظرون؟
بعض الإجابة يمكن أن يُردّ إلى حقيقة أنّ المنطق البسيط شيء، ومنطق الإدارات الأمريكية شيء آخر مختلف تماماً؛ وخذوا، في تفكيك قسط من دلالة هذه المعادلة، ما صرّح به سناتور ديمقراطي في سنة 2005: «أظن أننا يتوجب أن ننتهي إلى إغلاق المعتقل، ونقل السجناء.
أولئك الذين لدينا أسباب للإبقاء عليهم، نبقيهم. وأولئك الذين ليسوا في هذه الحال، نطلق سراحهم»؛ ثم انتبهوا إلى أنّ السناتور القائل ذاك لم يكن سوى جو بايدن، الرئيس الحالي للولايات المتحدة! أمّا بعض الإجابات الأخرى فإنها تردّ الأسئلة إلى حيثيات تأسيسية نهضت عليها فكرة إنشاء المعتقل، وانبثقت اصلاً من ركائز كبرى أسست للإمبراطورية الإمبريالية الأمريكية.
بين هذه، على سبيل الأمثلة، أنّ غالبية المعتقلين احتُجزوا أوّلاً في أفغانستان، وبعضهم نُقل إلى المعتقل ضمن «تكنيك» الخطف غير الشرعي الذي مارسته وكالة المخابرات المركزية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها؛ وجميعهم تعرّضوا لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي (ليس أقلّها قسوة الحرمان من كتابة وتلقي الرسائل…) فضلاً عن الإهانة والتحقير والقهر المتعمد، والتقييد بالسلاسل، وإجبار المعتقل على ارتداء نظارات معتمة.
وبالرجوع إلى بعض وقائع اليوميات التي دوّنها المعتقل البحريني جمعة الدوسري ونشرتها منظمة العفو الدولية، أكد الرجل أنّ القوات الباكستانية كانت قد باعته إلى المخابرات الأمريكية لقاء حفنة دولارات، وأنه خضع للاستجواب 600 مرّة، ووُضع في زنزانة منفردة من دون تهمة، وتعرّض لتهديدات بالقتل.
كما مورست عليه سلسلة ضغوط نفسية أثناء جلسات التحقيق، بينها إجباره على الاستماع إلى موسيقى صاخبة، وتركه موثوقاً لساعات طويلة في غرفة باردة جداً من دون ماء أو طعام، وتعريضه للإذلال بواسطة جندية لا ترتدي سوى ملابس داخلية، ثمّ إجباره على مشاهدة مجلات بورنوغرافية.
والمعتقل، الذي غصّ منذ افتتاحه في 11/1/2002 بما مجموعه 780 معتقلاً من 35 جنسية، شهد وفاة 9 من المعتقلين قضوا مرضاً أو بسبب التعذيب الوحشي أو الانتحار. السجين الواحد يكلّف دافع الضرائب الأمريكي 12 مليون دولار سنوياً، وأمّا منشأة المعتقل ذاتها فإنها تكلّف 540 مليون سنوياً.
وعلى صعيد «سمعة» الولايات المتحدة كدولة قانون ورافعة رايات حقوق الإنسان، فإنّ المعتقل فضيحة مفتوحة لا تعكف على تناولها المنظمات الحقوقية الدولية وحدها، بل سبق أن اعترفت بعواقبها الفاضحة مذكّرة وقّعها 24 من كبار أعضاء الكونغرس الديمقراطيين.
وإذْ أتمت الولايات المتحدة انسحابها من أفغانستان، على النحو المثقل بعلامات الخزي والاندحار والاستفهام، فإنها تظلّ غير راغبة في، لأنها في الواقع ليست عاجزة، عن إغلاق المعتقل سيئ الصيت؛ بعد انقضاء أكثر من 21 سنة على إنشائه.
*صبحي حديدي كاتب وباحث سوري يقيم في باريس