حرب النظام السعودي الصامتة على القطيف: سهم التنمية يضرب قلبها
يوسّع النظام السعودي دائرة استهدافاته لأبناء القطيف والأحساء وكل ما يرتبط بذاكرتهم الجمعية. حرب صامتة يقودها محمد بن سلمان ضدّ الهوية والذاكرة، ضدّ ضد روابط وعلاقات وبنى مجتمع واحات النخيل وانتمائه وعقيدته وثقافته.
Table of Contents (Show / Hide)
منذ انتفاضة محرم عام 1979، شكل “شارع المطاعم” في القطيف، مركزا لانطلاق المظاهرات في العشر الأوائل من شهر محرم، نتيجة الاضطهاد السياسي والفساد المالي والإداري المتراكم والذي حاربه الإمام الحسين (ع) بثورته المجيدة. وبما أن طريق الجهاد ضد المستكبر الوهابي لا يكون بلا تضحية، سُجل دخول أبناء الجزيرة العربية لوائح الشهداء، فكان أولهم الشهيد حسن القلاف من القطيف ولحق به الشهيد سعيد عيسى مدن من مدينة صفوى، لتطول بعدها لائحة الشهداء على يد النظام السعودي.
في العام 2011، تغيّر اسم الشارع المذكور أعلاه ليُعرف بـ “شارع الثورة”، بعيدا عن تسمية النظام له باسم “شارع الملك عبد العزيز”، كمركز انطلاق وتجمع للتحركات المطلبية التي قادها الشهيد الشيخ نمر باقر النمر حينها. يحظى الشارع بأهمية ورمزية في قلوب أبناء القطيف والأحساء ربطا بأهمية التحركات التي عمد النظام السعودي إلى إخمادها بالقوة عبر مدفعيته وسياسات التنكيل بالمشاركين وصولاً إلى اعتقال الشيخ النمر وإعدامه لاحقا في عملية إعدام جماعية، كانت الأكبر في تاريخ مملكة الموت.
إن ما شهدته ساحات شارع الثورة من تجمعات ومظاهرات، والشعارات التي رفعت في أرجائه من المطالبة بالعدالة والحريات الدينية وصولاً إلى مطلب إسقاط نظام الاحتلال السعودي للجزيرة العربية شكلت تراكما للصور والمشاهد والأحداث المتوالية في الإدراك الشعبي، ليس لجيل واحد، بل لجيلين على أقل تقدير.
التنمية تحت ستار
“مسح” الأمكنة سيناريو حيّ المسورة في العوامية تكرر في شارع الثورة. وتحت ذريعة توسعة شارع الإمام زين العابدين في القطيف، حيث تم الإعلان عن هدم 13 مبنى في شهر مايو/أيار 2023، إلا أن “بلدوزرات وتراكتورات” النظام السعودي وسّعت مروحة الانتقام وتوغلت في محيط الأحياء السكنية التاريخية والقديمة في الشويكة وباب الشمال والدبيبية وصولا إلى الأحياء السكنية الحديثة، ثم اتجهت لتستبيح البلدات والقرى الأخرى، تحديداً بلدات الجش وأم الحمام والملاحة، البعيدة كلّيا عن الشارع المستهدف ضمن خطة التجريف. ولم يتورع النظام السعودي عن تهديد العائلات التي امتنعت عن الخروج من أحياء “شارع الثورة”، حتى تجد بديلا لمنازلها الآيلة للهدم، وتوعد باستخدام القوة لإخراجهم بعد حظر الدخول والخروج من وإلى تلك الأحياء. ووزعت القوات السعودية منشورا توعدت فيه باستخدام القوة المسلحة كما حدث في العوامية عام 2017 في حال لم يخرج المواطنون من بيوتهم. وكان النظام قد أقدم،
في 31 يوليو/تموز 2023، على تجريف أجزاء من بلدتي الجارودية وحلة محيش. حيث شملت عمليات التجريف مزارع تاريخية مثمرة شكلت في ما مضى جزء هاما من واحة القطيف. والمنطقتين المذكورتين آنفا إلى جانب بلدات الجش وأم الحمام والملاحة، من المتوقع أن تطالهم جرّافات النظام السعودي في إطار مشروع تطوير الحقل النفطي في القطيف.
وعلى هذا المنوال، حدّد النظام تاريخ 26 سبتمبر/أيلول 2023 موعدا لانطلاق عمليات التجريف، لكن الحقيقة على الأرض أكدت انطلاق عمليات الهدم قبل أسابيع من الموعد المحدد، في تخط واضح لأقل المعايير الإنسانية في منح الأهالي فترة لإيجاد سكن بديل في ظل قلة المعروض من الشقق وارتفاع أسعار إيجاراتها. الأمر الذي دفع العديد منهم للانتقال إلى مناطق نائية وبعيدة، وتشييد مساكن من صفيح في بعض المزارع. وكانت مشاهد مصورة أظهرت عمليات تجريف همجيّة عدوانيّة حيث تتساقط الأبنية بجوار السيارات والمارّة.
بالإضافة إلى أهمية شارع الثورة في الانتفاضة الأولى والثانية، لقد شكّل الشارع تاريخيا شريانا حيوياً للمنطقة، لاحتوائه على أهم الحسينيات والمساجد التاريخية، تلك التي تحظى بشعبية وحضور من أبناء المنطقة، ما يجعل وصفه بـ”قلب” القطيف أمر لا مغالاة فيه. ومنه تتفرع طرق إلى الأسواق المركزية كسوق الخضار واللحوم المركزيين وسوق الخميس الشعبي وغيرها. وبالتالي، إن المسّ بهذا الشارع من بوابة تغيير معالمه بمزاعم التنمية يرمي، في حقيقة الأمر، إلى المسّ بوجود القطيف .
وفي هذا السياق، تعرّضت المعالم التراثية في القطيف والأحساء للهدم الممنهج منذ استيلاء آل سعود على الحكم، أبرزها قلعة القطيف وقصر السراج وقصر قريمط وأعمدة دوّار السفينة. ولم تسلم المعالم الطبيعية من العبث السعودي، إذ تم ردم البحر في صفوى الذي يبلغ طوله 15 كلم وعرضه 5 كلم بين عامي 2002 و2009. وتجريف عشرات الهكتارات الزراعية في العوامية، إذ استخدمت القوات السعودية جرافات مصفّحة اقتلعت أشجار النخيل والمغروسات الزراعية في منطقة الرامس الممتدة على مساحة 8 مليون و400 الف متر مربع، في مشهد شبيه لتجريف قوات الاحتلال بساتين الزيتون في المدن الفلسطينية المحتلّة كما يصفه الأهالي.
وكذلك، دأب النظام السعودي على إجراء عمليات تجريف في القطيف، طالت أحياء ومنازل ومحال تجارية. مثال على ذلك، ما قامت به قوات النظام السعودي في 2 أكتوبر 2022 من عمليات تجريف في وسط القطيف، ضمن خطة العمل المزعومة “لتطوير” شارع الملك عبد العزيز.
القطيف خالية من أهلها!
تُفيد المعلومات الواردة لـ”مرآة الجزيرة”، عن هدم النظام السعودي كامل المنازل الموجودة في طريق عبد الله بن الرواحة، وهو طريق داخلي والمنازل التي يحويها بأغلبها حديثة العمران. إن عمليات الهدم الكبيرة التي تطال منطقة القطيف وما يسبقها من تهجير للأهالي يجعلنا أمام حقيقة مفادها أن النظام السعودي يسعى بكل السُبل لدفع أبناء المنطقة بعيدا عنها.
تشير الإجراءات المتبعة أن النظام السعودي يخطط لإخلاء القطيف بالكامل من السكان، وذلك على مراحل وبالتدريج، وتحويلها إلى منطقة صناعات نفطية مثلها مثل الظهران وأرامكو، وإذا بقي فيها سكن على الأطراف فيكون تابعا لعمال وموظفي هذه الشركات.
هنا، يبرز السؤال عن مصير أهالي هذه المنطقة، الذين سيتم تشتيتهم إلى المجهول ليتبعثروا بحثا عن مأوى. الأخطر من هذا هو الرهان على ذاكرة الأجيال المقبلة. وعلى الطريقة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، يراهن النظام السعودي على قاعدة “الآباء يموتون والأبناء ينسون”، فإذا بقي الجيل الأول مرتبطا بالمنطقة، فإن الرهان السعودي على الأجيال المقبلة أن تذوب في محيطها الجديد وتُمسح من ذاكرتها قضية وتاريخ القطيف.
التشتيت، هدف آخر يسعى له النظام السعودي، بما يعنيه من إبعاد أهالي المنطقة عن مشاركة همومهم المشتركة ومطالبهم واحتياجاتهم لتنمية المنطقة، وبعثرة تجمعاتهم للقضاء على وجودهم كمجتمع وبيئة متجانسة متكاملة، ويقضي على روابطهم الاجتماعية، فاستهداف هذه البيئة واضح بدليل أن النظام لم يعمل على بناء مساكن بديلة لهم قبل الشروع بالهدم وتشتيت الأهالي ضمن مناطق وبيئات مجتمعية متناقضة
وجه آخر للتهجير هو القضاء على أسباب الحياة وتغيير معالمها في القطيف المصنفة تاريخيا كواحة خضراء، فأعمال الحفر واستخراج النفط والغاز غيرت البيئة المحلية ودمرت خصوبة الأرض وقضت على البيئة البحرية وحواضن الأسماك، فالسلطة ممثلة في “أرامكو” لم تراعِ وجود مئات الينابيع والعيون التي تشتهر بها القطيف، ولم تحافظ على خزانات المياه الجوفية إلى أن جفّت جميعها ما أدى الى موت وتلاشي آلاف المزارع الموجودة في المنطقة بعد تحولها إلى مساحات قاحلة. هذا ما يجعل خطة التهجير واضطرار الناس الى النزوح وتعمد خلخلة البنى الاجتماعية أهداف مفضوحة. يضاف كل ذلك إلى الهدف الأمني الذي يسعى النظام إلى تحقيقه في محاولة منه للسيطرة على الأحياء والمناطق التي كانت تشكل ملاذا أمنا للمواطنين المطاردين من قبل النظام السعودي، ومحاولة جعلها مناطق مكشوفة يسهل اقتحامها في أي حين.
يأتي ما ذكر في السطور السابقة في سياق محاولة التركيز على مخاطر سياسات الهدم السعودية في القطيف والأحساء، وأهداف النظام السعودي من ورائها. التنيمة التي يروّج لها ابن سلمان في القطيف الغرض منها، كما في جدة وغيرها من المناطق، ألا وهو التهجير والسيطرة على الأرض. سياسة يريد منها ابن سلمان توجيه ضربتين بسهم واحد: الأول، التخلّص من “عبئ” أبناء القطيف التاريخي ووجودهم المعارض ومخاطر انفجار حراك شعبي جديد قد لا يعرف النظام أن يتعامل معه ويشغله عن تسخير كل الإمكانيات لغسيل صورة “السعودية” في العالم وأمام الرأي العام.
أما الثاني، الانتقال من السعودية الوهابية إلى السعودية الترفيهية عبر السيطرة على الأراضي التي تخدم توجهه وتساعد في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، فالقطيف بوصفها منطقة ساحلية ونشطة على مستوى التصدير، ولكونها غنيّة بالموارد الطبيعية وكذا المساحات الخضراء، لن يتوانى النظام عن بسط سيطرته عليها للترويج لوجه السعودية الجديد.
المصدر: مرآة الجزيرة