لماذا يمثل صعود الطائفة اليهودية المتشددة كارثة على إسرائيل.. داخل أروقة “الحريديم”
منذ تشكيل الحكومة الجديدة، التي توصف بـ"اليمينية"، تمر إسرائيل بالعديد من الأزمات الداخلية بسبب تحالف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع الأحزاب اليمينية التي تدعهما وتقف وراءها جماعات دينية يهودية متطرفة مثل جماعة "الحريديم" التي تتبنى أفكاراً دينية، قد تتسبب في كارثة بالنسبة لإسرائيل.
Table of Contents (Show / Hide)
منذ قيام إسرائيل عام 1948، تم تبني الخدمة العسكرية الإلزامية لليهود الإسرائيليين لتكون القوة الدافعة إلى ائتلاف السكان في هذا المجتمع المنقسم، لكن هذا الأمر الآن بدأ في التراجع وبشكل كبير.
أما الآن، فقد صار الاختلاف القائم بشأن قضية الخدمة العسكرية خطراً يُهدد بتمزيق إسرائيل. فاليهود الأرثوذكس المتشددون المعروفون بـ" الحريديم" -وهم كتلة سياسية قوية وسريعة النمو- لطالما تجنبوا الخدمة العسكرية، وأموراً أخرى تركوا الوفاء بها على المجتمع العلماني. وفي المقابل، أبطلت المحكمة العليا الإسرائيلية أكثر من مرة مساعيهم للحصول على إعفاء دائم من الخدمة. لكنهم يسعون حالياً مع حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى تمرير تعديلات قضائية تُضعف من سلطة المحكمة العليا في البلاد.
يُتوقع أن يصادق الكنيست الإسرائيلي صباح الأحد 23 يوليو/تموز على الجزء الأول من التعديلات القضائية، التي أثار الاعتراض عليها احتجاجات حاشدة تضطرب لها البلاد منذ 7 أشهر.
جذور الصدام
تمتد جذور هذا الصدام إلى صميم التصور القائم لدى الطرفين عن هوية إسرائيل: هل هي ديمقراطية ليبرالية حديثة، أم مجتمع يحكمه الدين اليهودي؟ يرى كثير من العلمانيين الإسرائيليين أن التعديلات القضائية ليست إلا خطوة تُزيد من قوة هؤلاء الذين قد يستخدمون الدين وسيلة للارتداد عن الحقوق المدنية الأساسية.
قال جلعاد ملاخ، الباحث في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية: "المجتمع العلماني يريد دولة حديثة بكامل أركانها"، أما "الأرثوذكس المتشددون فيريدون مجتمعاً شديد التمسك بالدين".
اليهود الأرثوذكس المتشددون يُعرفون أنفسهم باسم الحريديم، أي التقاة الذي يرجفون خشيةً أمام الله. وكثير من رجالهم لا يعملون بانتظام، ويؤسرون دراسة التوراة في المدارس اليهودية الدينية (اليشيفا). وهم يزعمون أنهم يُسهمون في رفعة الدولة بالحفاظ على التعاليم اليهودية، واستجلاب الحماية الإلهية لإسرائيل.
قال يهودا مينوشين -وهو حريدي يبلغ من العمر 40 عاماً، ولديه زوجة و6 أبناء، لكن ليس لديه عمل ثابت-: "لا أظن أننا أقل تضحية من غيرنا"، "فقد تنازلت عن ملذات هذا العالم، وتخليت عن المطاعم والسينما والذهاب إلى النوادي، وأشياء أخرى كثيرة في حياتي".
يتجنب مينوشين وغيره من الحريديم ركناً من الأركان التي يقوم عليها المجتمع الإسرائيلي، وهي الخدمة العسكرية الإلزامية، فهي أحد تقاليد الانضمام إلى التيار الغالب في المجتمع الإسرائيلي. إذ يقضي معظم الرجال والنساء اليهود سنتين إلى ثلاث سنوات في الجيش بعد بلوغهم سن 18 عاماً؛ والصداقات التي تتكون في الجيش غالباً ما تكون الأساس الذي تستند إليه العلاقات المهنية بعد الحياة العسكرية.
الهروب من الخدمة العسكرية
رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية مرتين تشريعاً يرمي إلى إعفاء الحريديم رسمياً من الخدمة العسكرية، وعلَّلت رفضها لمشروع القانون في عام 2017 بأنه ينطوي على نوع من التمييز في معاملة المواطنين، لكن المحكمة سمحت ببعض الإعفاءات المؤقتة إلى حين تمكُّن الحكومة من إيجاد حل للقضية.
أدت هذه القرارات إلى تفاقم التوتر بين المحافظين المتدينين والمحكمة العليا، التي لطالما كانت مدافعاً قوياً عن الحريات الفردية، ووصفت بأنها تناصر حقوق العرب في إسرائيل، والنساء، والمثليين.
لكن الحريديم صار لديهم الآن الثقل السياسي اللازم للرد على المحكمة. فهم ممثلون في الكنيست بحزبين سياسيين -أحدهما يمثل اليهود من أصول أوروبية [يهودت هاتوراه]، والآخر يمثل اليهود الشرقيين [شاس]- يشكلان ثاني أكبر كتلة في الحكومة الحالية بعد حزب الليكود، ولديهم 18 مقعداً من مقاعد الكنيست البالغة 120 مقعداً. ومن ثم، فهم مفتاح قبضة نتنياهو على السلطة؛ لأن ائتلافه الحاكم يسيطر على 64 مقعداً بالكاد. وقد هددوا أكثر من مرة بمغادرة الائتلاف إن لم تستجب الحكومة لمطالبهم.
في مقابلة مع صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، وصف نتنياهو المحكمة العليا بأنها "أكثر المحاكم ممارسة للنشاط القضائي على هذا الكوكب"، وقال إن "هناك إدراكاً متزايداً لدى الرأي العام الإسرائيلي بأن البلاد في حاجة إلى إصلاح قضائي".
تزعم الحكومة أنها تريد إصلاح النظام القضائي، وتسليم المزيد من السلطة للمسؤولين المنتخبين. وتشمل الاقتراحات المقدَّمة انتزاع قدرة المحكمة على نقض قرارات الحكومة؛ ومنحَ المشرعين رأي الأغلبية في اللجنة التي تختار القضاة الجدد. لكن مساعي الحكومة واجهت احتجاجات شديدة من العلمانيين الإسرائيليين، وبعض اليهود المتدينين المعتدلين.
في مارس/آذار، شارك رون شيرف، وهو ضابط احتياط يبلغ من العمر 51 عاماً، في تنظيم مسيرة احتجاجية بشوارع بني براك، إحدى أكبر مدن الحريديم في إسرائيل. وحمل المتظاهرون لافتات تحث الحريديم على الانضمام للجيش. وألقى بعض الحريديم منشورات على المتظاهرين يقولون فيها إنهم لن يخدموا أبداً في جيش "ملحد".
قال شيرف: "نؤمن بأن إسرائيل تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد بين العلمانيين والحريديم"، فأنا "لا أرى سبيلاً يُمكن به لإسرائيل أن تكون دولة ليبرالية ومزدهرة وقوية إذا لم يتغير الوضع الحالي".
الخلافات أكبر من القدرة على التعايش
في المقابل، قال يسرائيل كوهين، وهو شخصية إعلامية شهيرة من الحريديم، إننا "نوشك على صدام كبير"، و"إذا لم يتحل أحد الطرفين بالحكمة، فلن تنتهي الأمور على خير".
لكن الخلاف لا يقتصر على مسألة الخدمة العسكرية، فكثير من الإسرائيليين يرون أن أسلوب معيشة الحريديم يمثل تهديداً مباشراً لازدهار البلاد في المستقبل، لأن نصف الرجال الحريديم تقريباً لا يعملون؛ بل ينكبون على دراستهم الدينية، ويعيشون على رواتب زوجاتهم، والتبرعات الخيرية، والمنح الحكومية والإعانات. وتشير البيانات الواردة عن مركز الإحصاء الإسرائيلي، إلى اطِّراد معدل التزايد في المواليد بين الحريديم (يبلغ اليوم نحو 6.5 أطفال لكل أنثى) بالقياس إلى بقية السكان (نحو 3,0 أطفال لكل أنثى)؛ ويبلغ عدد الحريديم في إسرائيل نحو 1.3 مليون مواطن، أي 13.3 % من السكان. ولما كانوا أسرع شرائح السكان نمواً، فإن التوقعات تذهب إلى أنهم سيبلغون قرابة ثلث السكان في إسرائيل بحلول عام 2065.
استغل الحريديم سلطتهم السياسية لتوسيع نطاق التخفيضات على الضرائب البلدية؛ وزيادة إعانات رعاية الأطفال المبكرة؛ وتوفير معونات الإيجار للأسر الكبيرة ذات الدخل المنخفض، وهي مزايا متاحة لجميع الإسرائيليين، ولكن الحريديم أكثر الناس استفادة منها. ويشير معهد الديمقراطية الإسرائيلي إلى أن نحو 140 ألف رجل من الحريديم يتلقون رواتب ومنحاً للدراسة بدوام كامل في المدارس الدينية اليهودية. وخلص المعهد إلى أن الضرائب التي يدفعها الحريديم أقل بمقدار الثلث من تلك التي تدفعها سائر العائلات في البلاد.
حذر أكثر من 200 اقتصادي إسرائيلي بارز في خطابٍ أرسلوه إلى نتنياهو في مايو/أيار، من تداعيات الخطة المقترحة لزيادة التمويل الحكومي للمؤسسات التعليمية الحريدية التي ترفض تدريس المواد العلمانية؛ ورفع رواتب الطلاب المنكبين على دراسة التوراة بدوامٍ كامل. وقالوا إن هذه الخطة ستحول إسرائيل إلى دولة من دول "العالم الثالث"؛ لأنها ستجعل أطفال الحريديم عاجزين عن الانضمام إلى القوى العاملة بعد ذلك.
علاوة على ذلك، يسعى الحريديم إلى التوسيع من حضور الدين في المجال العام. فبُعيد عودة نتنياهو إلى السلطة العام الماضي، أصدروا قانوناً يُتيح للمستشفيات العامة أن تحظر منتجات الخبز فيها خلال عطلة عيد الفصح اليهودي؛ وصرحوا بأنهم يريدون سنَّ تشريعٍ يسمح بفصل الرجال عن النساء في بعض الأماكن العامة وفي الفعاليات التي يرتادها الحريديم، وهو أمر يرى كثير من القانونيين الإسرائيليين بأنه يخالف الدستور.
الواقع أن الحريديم لديهم بالفعل سلطة هائلة على كثير من جوانب الحياة العامة. فهم يسيطرون على "الحاخامية"، وهي الهيئة الحكومية التي يُناط بها الإشراف على إجراءات الزواج والطلاق ومنح الهوية اليهودية؛ ولديهم أيضاً السيطرة الإدارية على أبرز الأماكن المقدسة اليهودية. ولطالما كان رفض الحاخامية للاعتراف بأي فروع غير أرثوذكسية لليهودية بؤرة توتر بين اليهود، لا سيما بين يهود الشتات.
لم تعجب دفورا، زوجة يهوشوا مينوشين، بالاحتجاجات الأخيرة في بني براك، وقالت: "هؤلاء المحتجون لا يعرفون شيئاً عن اليهودية"، "إنهم مثل الأطفال.. لو كانوا يعرفون شيئاً عن اليهودية، لما فعلوا ذلك".
تعيش عائلة مينوشين على الأموال القادمة من متبرع أمريكي يرعى انخراط يهوشوا في الدراسة الدينية بدوامٍ كامل؛ والإعانات الحكومية؛ والقروض بدون فوائد من الأصدقاء أو العائلة؛ وبعض الوظائف غير الثابتة.
توقف مينوشين وأولاده عن التعلم بالمدارس العلمانية بعد الصف الثامن. ومن ثم، فهم لا يجيدون القراءة بالإنجليزية ولا التحدث بها، ولا يحسن مينوشين سوى عمليات الجمع والطرح الأساسية. ويقول إن هذه الأشياء اليسيرة هي غاية ما يحتاج إليه المرء في حياته العادية.
وقال الحاخام إيلي بالي، رئيس معهد الحريديم للشؤون العامة، إن أسلوب المعيشة القائم على تعلم التوراة ينتج "أزواجاً صالحين، وآباء صالحين، وأفراداً صالحين في المجتمع، ومتطوعين خيِّرين".
وعلى الرغم من أن الاقتصاديين يقولون إن تمويل المدارس الدينية اليهودية يحكم على غالبية الحريديم بأن يظلوا فقراء، فإن الحريديم يردون على ذلك بالقول إنهم لا يبالون بسباق الفئران الرأسمالي، وإن أسلوب معيشتهم يحفظ عليهم السعادة والقناعة.
المصدر: عربي بوست