هل نشهد بداية النهاية للمشروع الصهيوني.. 5 مؤشرات تخبرنا
يقول أبراهام بورغ، الذي شغل منصب رئيس الكنيست الإسرائيلي في الفترة بين عامَيْ 1999-2003: "هناك احتمال حقيقي أن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير".
Table of Contents (Show / Hide)
كان بورغ يرى أن المشروع الصهيوني الاستعماري الذي بدأ في القرن التاسع عشر قد شارف على نهايته، ولم يعد له مكان في القرن الحادي والعشرين. وقد تنبأ رئيس الكنيست بذلك في مقال له ⑴ نُشر عام 2003، ورغم مرور أكثر من عشرين عاما، فإن التكهنات نفسها تردَّدت ⑵ على لسان المؤرخ الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيلان بابيه، عندما صرح في بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي قائلا إن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل مشروع استيطاني إحلالي، ومشيرا إلى أننا نشهد حاليا بداية النهاية لهذا المشروع.
في حديثه، يقر بابيه أن النهاية لن تكون في أي وقت بالمستقبل القريب، فبداية زوال الصهيونية هي حقبة طويلة وخطيرة على حد قوله، وقد تستمر لعقود، لكنه اعتبرها المصير المحتوم الذي "علينا أن نتحضر له من الآن". وأورد بابيه في هذا السياق مؤشرات عديدة اعتبرها إرهاصات الانهيار الصهيوني، وهي مؤشرات تناولتها من قبله كتابات العديد من المؤرخين والمفكرين على مدار العقود الماضية، وعلى رأسهم الراحل عبد الوهاب المسيري، الذي رسخ جزءا كبيرا من حياته الأكاديمية لدراسة الصهيونية وتفكيكها، على مستوى النظرية والممارسة كلتيهما.
حرب إسرائيل الأهلية
قد يكون وقع هذه الجملة غريبا، لكن الأشهر التي سبقت الحرب على قطاع غزة شهدت خروج مئات الآلاف ⑶ من الإسرائيليين إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك في خضم ما عُرف حينها باسم "أزمة التعديلات القضائية". في ذلك الوقت، سعت حكومة نتنياهو لإجراء عدة تعديلات دستورية من شأنها أن تحد من صلاحيات السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية.
وكي نفهم أهمية هذه التغييرات، علينا أن ندرك أولا السياق الذي نبعت منه. إن حكومة نتنياهو ⑷ اليمينية تُعد من أكثر الحكومات تطرفا وعنصرية في تاريخ دولة الاحتلال، وقد جاءت في وقت يعاني فيه الداخل الإسرائيلي من الانقسام أكثر من أي وقت مضى، إذ يحتدم الصراع بين ما يُعرف بـ"الصهيونية العلمانية" و"الصهيونية الدينية"، وهو صراع يراه بابيه بداية النهاية للمشروع الصهيوني. ويشير بابيه إلى أن حالة توحد المجتمع الإسرائيلي الظاهرية التي نشهدها حاليا ستبدأ في التفكك والزوال بانتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم ما يلبث الصراع الديني العلماني في إسرائيل أن يشتعل مرة أخرى.
إسرائيل فشلت في أن تصبح دولة آمنة ومستقرة
قامت ⑸ الدولة الصهيونية على عقيدة أساسية، وهي أن اليهود لا يمكن أن يشعروا بالأمان إلا بوجودهم داخل دولة واحدة يسيطرون على حكومتها وقوانينها، فكان الأمان الهدف والأساس الذي بنى عليه ثيودور هرتزل الفكرة الصهيونية في كتابه "دولة اليهود" عام 1896، وأعلنت على إثره قيام دولة إسرائيل عام 1948. ورغم ذلك لم تستطع إسرائيل الحفاظ على سلامة اليهود داخل أراضيها، وذلك لعدة أسباب أهمها أنها ما زالت تتبع منطق العنف والاستيطان ذاته الذي اتبعته منذ أكثر من 75 عاما، فاستمرار نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وهدم منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم، بالإضافة إلى حروب دولة الاحتلال على مصر والأردن وسوريا ولبنان، وأخيرا الفشل الذريع في عملية "طوفان الأقصى"، كل هذا نتج عنه فشل الدولة الصهيونية في أن تصبح مستقرة وآمنة، وهذا من أهم مؤشرات بداية انهيار المشروع الصهيوني.
أضف إلى ذلك، فشل إسرائيل في أن تصبح دولة لكل اليهود من كل أنحاء العالم كما أراد لها المشروع الصهيوني منذ بدايته، فرغم أن المشهد المُسيطر طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين تَمثَّل في موجات هجرة اليهود إلى فلسطين، نجد أن القرن الحادي والعشرين يشهد موجة هجرة عكسية ⑹ من الأراضي المحتلة إلى الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وقد بلغ عدد المستوطنين الذين رحلوا عن إسرائيل حتى نهاية عام 2020 زهاء 750 ألفا، فيما وصل الرقم إلى 900 ألف بنهاية عام 2022.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، تصاعدت موجات الهجرة خارج إسرائيل بشكل ملحوظ. وفي السنوات الأخيرة، أشارت العديد من الاستطلاعات إلى أن يهود الغرب الذين يسكنون حاليا الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا "أكثر سعادة" من اليهود الذين يقطنون الأراضي المحتلة في فلسطين، وهو أمر انعكس ⑺ على الجيل الجديد من اليهود، فلم يعد المشروع الصهيوني بالنسبة إليهم معقل الأمان من "معاداة السامية"، على النقيض من الأجيال السابقة.
الدعم العالمي "غير المسبوق" للقضية الفلسطينية
منذ بداية العدوان الصهيوني على قطاع غزة، شهدت القضية الفلسطينية دعما شعبيا "غير مسبوق" خاصة في الغرب، فرأينا المظاهرات الحاشدة تلف شوارع المدن الأوروبية وترفع أعلام فلسطين في الميادين، في حين ندَّد المتظاهرون بنظام الفصل العنصري الذي يفرضه الكيان المُحتل على الفلسطينيين. وقد أشارت صحيفة "فاينانشال تايمز" ⑻ البريطانية في مقال نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت إلى أن القضية الفلسطينية كانت قد تراجعت خلال السنوات الفائتة، وغالبا ما قوبلت في الغرب باللامبالاة مع دعم أميركي كامل لإسرائيل، لكن سيطرة مشاهد القصف المروعة لقطاع غزة على منصات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى تحولات عميقة في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ازداد على إثرها دعم الديمقراطيين في الولايات المتحدة لفلسطين.
هذا وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها "مؤسسة غالوب" الشهيرة عام 2023 تصاعدا كبيرا ⑼ في دعم الأجيال الصغيرة من الشباب الأميركي للفلسطينيين، وذلك على النقيض من الأجيال الأكبر سِنًّا. ووفقا للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه فإن التحول في الرأي العام العالمي جعل أغلب المتضامنين مع القضية الفلسطينية حاليا على استعداد لتبني سيناريو إنهاء "دولة الفصل العنصري"، تماما كما حدث مع جنوب أفريقيا، وهو ما عدَّه أحد إرهاصات النهاية للمشروع الصهيوني.
هذا هو السيناريو نفسه الذي تنبأ به المفكر والدكتور عبد الوهاب المسيري قبل أكثر من 15 عاما، إذ قال في أحد حواراته ⑽ مع قناة الجزيرة في برنامج "بلا حدود" إن المشروع الصهيوني غير قادر على حل مشكلة المقاومة الفلسطينية، وسينتهي به الحال أمام المصير ذاته لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مُعللا ذلك بأن حركات التحرير على مر التاريخ لم تستطع أية قوى هزيمتها. وهو ما يؤكده أيضا رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق أبراهام بورغ، عندما أشار في مقاله إلى أن قمع حركة النضال الفلسطيني لن يستطيع أن يقضي عليها، مناديا بالقضاء على نظام الفصل العنصري، لأن سفك دماء الفلسطينيين لن ينتج عنه إلا المزيد من المقاومة، وستدفع الدولة الصهيونية جراء ذلك ثمنا باهظا على حد وصفه.
ازدياد معدلات الفقر في إسرائيل
في يناير/كانون الثاني 2023، نشرت صحيفة "جيروزاليم بوست" ⑾ الإسرائيلية النتائج الأولية للمسح الذي أجراه معهد اﻟﺘﺄﻣﻴﻦ اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ، التي أشارت إلى أن 1 من بين كل 5 إسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقا لتقارير العام 2021، أفاد ما يقرب من 30% بين النساء والرجال أنهم يشعرون بالفقر، أي ثلث مواطني الداخل المُحتل. وكان هذا عاملا من عوامل سقوط "المشروع الصهيوني" التي أوردها بابيه في حديثه، إذ أشار إلى أن قدرة إسرائيل على الصمود اقتصاديا لن تبقى طويلا، مُتنبئا بزيادة معدلات الفقر في السنوات التالية، وهو أمر سيُعجِّل بانهيار الدولة الصهيونية من الداخل بحسب رأيه.
قبل سنوات، تحدث عبد الوهاب المسيري هو الآخر عن النتائج المترتبة على فقر المجتمع الإسرائيلي، وكيف ستصبح عاملا مساعدا على الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة إلى دول الغرب بحثا عن رغد العيش، أضف إلى ذلك تقلص أعداد الوافدين الجدد من المهاجرين، حيث قال المسيري إن الجيوب الاستيطانية من أجل بقائها تحتاج إلى الهجرة بشكل دائم، وإسرائيل دولة استيطانية عنصرية قائمة على العنف، وهي بحاجة إلى العنصر البشري لتظل "آلة القتال" دائرة، ما سيجعل دولة الاحتلال الصهيونية تواجه في المستقبل أزمة كبيرة وفقا للمسيري.
مقومات حياة إسرائيل من خارجها لا من داخلها
بنى المشروع الصهيوني استعماره للأراضي الفلسطينية بديلا عن الاستعمار البريطاني، فبحسب ما ذكره المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودنسون في دراسته "فلسطين: حالة فريدة في تاريخ إنهاء الاستعمار"، تمتَّع المشروع الصهيوني بحماية القوة البريطانية المهيمنة، التي ساعدت المستوطنين الجدد على تكوين وجود خاص بهم بشكل منفصل ومهيمن، وذلك بالتوازي مع قمع الوجود الفلسطيني واضطهاده. فكانت بريطانيا مَن وضع حجر الأساس للوضع المتأزم الذي نشهده حاليا، ورغم جلاء الاستعمار البريطاني، فإن الفلسطينيين لم يُمنَحوا يوما حريتهم.
وقد استقى الاستعمار الصهيوني أفكاره من أسس الإمبريالية الأوروبية للقرن التاسع عشر، ويرى كثير من المؤرخين والمفكرين أن استمرار المشروع ⑿ الصهيوني لأكثر من 70 عاما لا يعود إلى نجاح المشروع في حد ذاته، بل إن سبب استمراره الجوهري والمفصلي هو الدعم الخارجي الأميركي والبريطاني، الذي جعل الوجود الصهيوني يعتمد على الغرب تقريبا في كل المناحي، ولولا ذلك ما كانت إسرائيل موجودة حتى يومنا هذا. ولكن للسبب ذاته تقريبا، نجد أن المجتمع الإسرائيلي ⒀ أصبح يعاني من الهشاشة، فهو مجتمع مليء بالمشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يعيش فيه الجميع في خوف، مع قليل جدا من الشعور بالأمان.
ومن هنا كان صعود تيار "ما بعد الصهيونية" في إسرائيل إبان ثمانينيات القرن الماضي، فهو بحسب المسيري يعني "نهاية الصهيونية" ويكسر تابوهات المجتمع الإسرائيلي. ولهذا عُدَّ هذا الجيل داخل إسرائيل معاديا للدولة ⒁ وشرعية وجودها، وهذا لأنهم أعادوا النظر في جوهر الفكر الصهيوني وقاموا بتفكيكه، كاشفين عن التناقضات التي تعج بها فكرة إسرائيل.
وكان من أبرز رواد هذا التيار المؤرخ إيلان بابيه، الذي اشتهر بمؤلفاته مثل كتابَيْه "التطهير العرقي للفلسطينيين" و"10 خرافات عن إسرائيل"، وغير ذلك من الأبحاث التي كان أحدها دراسة بعنوان "ما بعد الصهيونية: توجهات جديدة في الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي حول الفلسطينيين والعرب" ⒂، تناول فيه بالبحث جيل ما بعد الصهيونية من المؤرخين والمفكرين الإسرائيليين، وكيف استطاعوا تحدي السردية الإسرائيلية السائدة والقائمة لسنوات طويلة على شرعنة الاحتلال، وغض الطرف عن التهجير القسري والإبادة الجماعية للفلسطينيين.
المصدر: الجزيرة