حلّ الدولتين معبراً إلى التطبيع
فجأةً، استفاق الضمير الأخلاقي والسياسي الأميركي، ومعه الأوروبي، ليبشّر الفلسطينيين والعرب مجدّداً بمشروع الدولة الموعودة، في إطار ما بات يُعرف بحلّ الدولتين. يجرى هذا بعد غياب أو تغييب متعمّد، مدّة طويلة، مقولة الدولة الفلسطينية من القاموس السياسي والدبلوماسي الأميركي/ الأوروبي، وبعد سنواتٍ متتاليةٍ من تجاهل الملفّ الفلسطيني جملة وتفصيلاً، لصالح ما تُعرف بصفقات القرن ومشتقّاتها، ثم بعد ما يقرب من العقدين من قتل الزعيم ياسر عرفات على "مذبح" دولة أوسلو التي لم يتحقق منها شيء.
Table of Contents (Show / Hide)
قبل أيام قليلة من عملية طوفان الأقصى، صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان بأن "الشرق الأوسط بات أهدأ من أي وقت مضى طوال 20 عاماً"، مؤكّداً، في السياق ذاته، قدرة الولايات المتحدة على تركيز أولوياتها الاستراتيجية خارج الشرق الأوسط، والمضمر في هذا الحديث أنه ما عادت هناك حاجة لإعطاء "تنازلات" ومجاملات للفلسطينيين أصلاً ما دام من الممكن التحرّك على جبهات أخرى في المنطقة بمعزلٍ عن الفلسطينيين، فقد استقرّ في أذهان صانعي القرار الأميركي، وبخلفية إسرائيلية مستبطنة طبعاً، بأن خطّ التطبيع عبر "الاتفاقيات الإبراهيمية" يغني عن الحديث عن قضايا الدولة والاستيطان والقدس وغيرها من الملفّات الشائكة والمعلّقة، فما دامت قاطرة التطبيع مع العرب تسير في الاتجاه المطلوب، ما الحاجة لإثارة مواقع الصداع الفلسطيني، وهذا يعني الالتفاف "عربياً" وبصورة خلفية على الفلسطينيين ووضعهم في كمّاشة ضيقة ما بين خياري العزلة أو التكيف مع الوضع الجديد المحكوم بموازين قوى أكبر منهم. ولذلك، اختلف الرئيس بايدن مع سلفه ترامب في كل ما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية الأميركية تقريباً، لكنّه ظلّ مثابراً على سياسات ترامب في كل ما يتعلق بالملف الفلسطيني والشرق أوسطي، بما في ذلك ما عُرفت بصفقة القرن، التي بدأها ترامب بمعية صهره كوشنير، إذ جرى تثبيتها والبناء عليها لاحقاً باعتبارها مكسباً يجب البناء عليه، ومن ذلك العمل على جلب مزيد من الدول العربية إلى بيت "الطاعة الابراهيمي"، بما ينمّ على أن الثابت الذي لا يتغيّر في الأجندة الأميركية المتقلبة للشرق الأوسط تركيز إسرائيل قطب الرحى الناظم لحركة المنطقة واتجاهاتها المستقبلية.
والسؤال هنا: ما الذي تغير حتى يعود ملفّ الدولة الفلسطينية أو حلّ الدولتين فجأة ليطفو على سطح الخطاب الأميركي والأوروبي، ويكرّره ساستهم في كل وقت وحين؟ ما تغيّر أن صدمة "طوفان الأقصى" ذكّرت الجميع بأن نظرية الردع الإسرائيلي، على أهميّتها، تآكلت وما عادت توفر ضمانة كافية لأمن إسرائيل واستمرارها، كما أن عجز إسرائيل عن حسم عدوانها على غزّة في الآجال الزمنية المتوقّعة حفّز الأميركيين أكثر من أي وقت مضى على البحث عن تكتيكات جديدة/ قديمة لحماية إسرائيل وتحصينها من خطر المحيط الأوسع، بدل الاعتماد فقط على القوة العسكرية العارية. وما يلفت الانتباه هنا أن حلّ الدولتين لا يحضر في الخطاب الأميركي الأوروبي من زاوية صلته بالفلسطينيين وطموحاتهم في السيادة والحقّ في تقرير المصير، كما هو شأن كلّ الشعوب التي خضعت للاحتلال الأجنبي، بل باعتباره الضمانة الأمثل لأمن إسرائيل وسلامتها، بما يعنيه ذلك من أن الطرف الحاضر الغائب في القصة وما فيها إسرائيل وأمنها، وكأنّها ضحية احتلال فلسطيني وعربي، وليست قوة احتلال وعدوان.
اعتادت الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومن خلفها وبجانبها إسرائيل، أن تأخذ من المبادرات والمواقف العربية، ما يخدم أولوياتها ويستجيب لحساباتها الخاصة في الشرق الأوسط، فحينما طرحت الرياض مبادرتها العربية في قمّة بيروت سنة 2002 تحت عنوان الأرض مقابل السلام، لم تر فيها الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، سوى فرصة لتوسيع قوس التطبيع لا غير، وفي كل مرّة تلتقط واشنطن مواقف ومبادرات عربية، وتجيب على وجه السرعة "شكر الله سعيكم على هذه المواقف، لكن هل من مزيد؟".
لم يتوان بايدن، منذ الساعات الأولى لـ"طوفان الأقصى"، عن تحريك خط جوي مفتوح ومباشر لضخّ إسرائيل بالذخيرة وكل أنواع الأسلحة الاستراتيجية والتكتيكية، والمحرّمة وغير المحرّمة التي يحتاجها حليفه الصغير، إلى جانب تقديم الدعم المالي الاستثنائي، حيث جرت المصادقة بجرّة قلم، في الأيام الأولى للعدوان، على 14 مليار دولار في ضربة واحدة، هذا عدا عن الهبات والمساعدات السخيّة لاحقاً. وأكثر من ذلك ما زال بايدن يمتنع عن المطالبة، تلميحاً أو تصريحاً، بوقف إطلاق النار، وقد استخدمت إدارته للمرّة الثالثة حق النقض في مجلس الأمن ضد مشاريع قرارات في هذا الخصوص، من دون أن نتحدّث عن مرات سابقةٍ جرى فيها إحباط مشاريع قبل ذهابها إلى المجلس، كما لم يأل جهداً في تبرئة دولة العدوان من تهمة الإبادة الجماعية التي تلاحقها في محكمة العدل الدولية في لاهاي.
الأوروبيون، وإن كانت مواقفهم متفاوتة من العدوان على غزّة، اتحدت لغتهم فجأة حول مطلب الدولة الفلسطينية، بما في ذلك الألمان الذين يقترب موقفهم من أن يكون نسخةً كربونيةً من مواقف رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو تقريباً، والإنكليز أيضاً الذين يشكلون جزءاً من معزوفة موحدة مع البيت الأبيض في ملفّات الشرق الأوسط، فقد باتت مقولة حلّ الدولتين بمثابة الكلمة السحرية التي تجرى على الألسنة والأقلام، وفي البيانات بمناسبة وبغير مناسبة.
يتبيّن، عند التمحيص الدقيق، أنّ حلّ الدولتين يدخل ضمن ما سماها الأميركيون رؤيتهم بشأن اليوم التالي، أي ما بعد العدوان أو ما بعد غزّة، وترجمة ذلك تركيز ترتيباتٍ أمنيةٍ سياسية في إطار المشروع الشرق أوسطي الكبير، بما يسمح بجعل إسرائيل "الكبرى" قطب الرحى في المنطقة، بحيث يتم شدّ العواصم العربية عبر آليات أمنية واستخباراتية واقتصادية معقدة ومتداخلة بإسرائيل، إلى الحدّ الذي يتعذّر معه الفكاك منها، مع إعادة تدوير المال العربي في حلقة هذه المنظومة الضخمة المُراد بناؤها، في إطار ما سماها شيمون بيريز، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، المزاوجة بين المال العربي والذكاء الإسرائيلي، أي إعادة إنتاج مشروع الهيمنة الأميركي الإسرائيلي وفق الديناميكيات الداخلية ونسيج العلاقات التي تمسك برأسها تل أبيب، من من دون حاجة إلى الاعتماد المستمر والدائم على فائض القوة العسكري، مع ما يعنيه ذلك من قطع الطريق أمام أيّ تمدّد صيني روسي محتمل في المنطقة، ومن ثم الالتفاف على مشروع الطريق والحرير الذي انخرط فيه الصينيون منذ عقود وأنفقوا عليه مئات المليارات، والبدء بموازاة ذلك في تشغيل الخط البحري/ البرّي المشترك الذي يمتد ما بين الهند والخليج، ومنه إلى أوروبا لاحقاً، وقد بيّنت أحداث غزّة أهمية هذا الخط، خصوصاً بعد الحصار الذي ضربه اليمنيون أخيراً على البحر الأحمر وباب المندب، فالنموذج الإماراتي البحريني، وإلى حد ما المغربي، الذي ظلّ بمثابة استثناء في مشهد رافض لدولة الاحتلال، يُراد تحوّله، بفعل عامل الزمن وتوالي الضغوط، إلى القاعدة العامة والنغمة السائدة بين دول المنطقة.
ومن الواضح وجود اختلافٍ في التكتيكات بين واشنطن وتل أبيب، لكن من دون أن يطاول الأمر الخيارات والاستراتيجيات الكبرى. والهدف المشترك هو الإجهاز على المقاومة وتجفيف منابعها، وإن اقتضى ذلك فرض التهجير، وليس سرّاً أن وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، حينما زار عدة عواصم عربية بعد تحرّك الدبابات الإسرائيلية باتجاه غزّة، كان يحمل في حقيبته الدبلوماسية تمرير مشروع التهجير، ولكنه اضطرّ، فيما بعد، إلى التصريح بعكس ما يبطن، بعد أن واجه شيئاً من الصدّ من العربي. وحينما يقول البيت الأبيض اليوم إنه يعترض على توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية نحو رفح من دون خطّة قابلة للتحقيق، فهذا ترجمته العملية الموافقة على الهجوم بخطّة قابلة للتحقيق، أي عقلنة الأهداف الإسرائيلية وجعلها أخفّ وطأة نسبياً على السكان المدنيين تجنّباً للإحراج، خصوصاً مع تزايد ضغط الرأي العام الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية، ولكن الأهم من ذلك كله هو التقدم الميداني نحو الهدف المطلوب، مع شيءٍ من التصريحات المخاتلة المعبّرة عن الانزعاج والقلق وإرسال المبعوثين الأميركيين إلى المنطقة.
يعود مبعث الخلاف التكتيكي إلى أنّ نتنياهو وحلفاءه من اليمين اليهودي غارقون في جزئيات المشهد الفلسطيني، ويصرّون على مزيد من السيطرة على الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر وتوسيع الاستيطان، بينما تتركّز عينا بايدن على ما هو أوسع وأهم، أي المشهد الكلي في الشرق الأوسط وما بعده، فهو يريد استئناف المهمّة من حيث توقفت بعد "طوفان الأقصى"، وفي مقدمة ذلك جلب السعودية إلى مساحة التطبيع المجاهر والمعلن، على أمل أن تجرّ معها بقية الدول العربية والإسلامية، ومن ثم يتم إرباك معسكر الرفض من الدول والقوى الشعبية، والمضي تبعاً لذلك في ترتيب الوضع الإقليمي وفق نظام الهيمنة الأميركي المطلوب. ومن مقتضيات ذلك إيجاد ديناميكيات جديدة في المنطقة تتيح إنتاج تحكّم إسرائيل وإعادة إنتاجه، بينما تتركز أولوية نتنياهو على حماية حكومته من السقوط وتحصين نفسه من المحاكمات والمحاسبات التي تنتظره. وما عقّد الوضع أن نتنياهو لا يريد إعطاء الإدارة الأميركية حبل نجاة لتمرير مشروعها، ولو ببيع الوهم والموافقة شكلياً على وجود دولة فلسطينية "افتراضية"، بما يساعد على ربح الوقت وتوسيع هامش المناورة وإيجاد توازناتٍ جديدة عبر التطبيع.
قد تختلف الولايات المتحدة مع نتنياهو الجامح في بعض التفاصيل والأساليب، ولكنها تتفق معه في ضرورة إنجاز المهمة وتوجيه رسائل قوية إلى الدول العربية الحليفة قبل العدوّة، وفي مقدمة ذلك مصر والسعودية نفسيهما، بأنه ليس أمامهما من خيارٍ إلا أن تضبطا سلوكهما السياسي على ضوء التفوّق الأميركي الإسرائيلي على نحو ما يظهر بشكل استعراضي وهمجي في غزّة المنكوبة، ومن ثم الإذعان للوصفة المعروضة، وغلق الأبواب والنوافذ أمام أي مراهنةٍ أو تعاون أو لعب على التوازنات بين واشنطن وبكين وموسكو في المستقبل القريب أو البعيد.
كل ما تحتاجه الإدارة الأميركية في الوقت الراهن بيع وعود مؤجلة لدولة فلسطينية هلامية ومنزوعة السيادة، تعرف، هي قبل غيرها، أنها مجرّد سراب، ولكنه سرابٌ تحتاجه هي مثلما يحتاجه النظام الرسمي العربي لتبرير التطبيع، بزعم أنه انتزع مكسباً مهمّاً للفلسطينيين، وأن كل ما يقوم به الحكام العرب من تنازلاتٍ هو من أجل فلسطين والفلسطينيين.
تبدأ كل حركات الاستقلال بمشروع التحرير وانتزاع السيادة أولاً ثم تأتي الدولة عنواناً لتقرير المصير، إلا في الحالة الفلسطينية يراد وضع العربة قبل الحصان، أي إعلان مشروع الدولة لقطع الطريق أمام مطلب التحرير نفسه وإفراغ مفهوم الدولة من محتواه. والواضح أن مقولة حلّ الدولتين خدعة كبيرة من صنف خداع الشريف حسين الذي وعده الإنكليز بتولي قيادة دولة عربية كبرى تضمّ الحجاز وبلاد الشام والمشرق العربي، فوجد نفسه منفيّاً في جزيرة قبرص بلا أرض ولا وحدة ولا شيء.
المصدر: السبيل