انقسام مخز وصمت فاضح.. الموقف العربي إزاء اغتيال إسماعيل هنية
فرضت حادثة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، أمس الأربعاء 31 يوليو/تموز، نفسها على المشهد العربي والإقليمي والدولي، إذ حظيت باهتمام سياسي وإعلامي كبير، وسط قلق من تداعياتها على المنطقة بأسرها.
Table of Contents (Show / Hide)
وتوالت الإدانات الدولية لتلك الجريمة التي وصفتها الخارجية التركية بـ”الدنيئة” وتهدف إلى مد نطاق الحرب من غزة إلى المستوى الإقليمي، فيما وصفتها روسيا في بيان لوزارة خارجيتها بـ”الاغتيال السياسي غير المقبول على الإطلاق”، أما رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، فقال عنها: “إنها أحقر جريمة قتل تهدف إلى تدمير محادثات وقف المذبحة في غزة”.
أما على المستوى العربي فجاءت كثير من المواقف مثيرة للحيرة، وربما الغثيان، فرغم بشاعة الجريمة وثقل وحجم المستهدف، ورمزيته السياسية للقضية الفلسطينية، وما تعكسه الواقعة من تغول واضح للكيان المحتل وتجاوزه لكل الخطوط الحمراء، داخل فلسطين وخارجها، وما يمكن أن يهدد ذلك الأمن القومي العربي ويقوض الاستقرار في المنطقة، فإن ردود الفعل جاءت – كالعادة – مخيبة للآمال.
وفي الوقت الذي سارعت فيه عشرات الدول غير العربية لإدانة اغتيال هنية بشكل مباشر، محملة الكيان المحتل مسؤولية تلك الجريمة وتداعياتها، انقسم الموقف العربي إزاء تلك الحادثة، إلى 3 أقسام: ناع له، وملتف على الجريمة، وملتزم للصمت، في مشهد يرسخ حالة الانهزامية والانبطاح التي تخيم على المشهد العربي.
نعي لـ”هنية” وإدانة مباشرة للجريمة
غالبية الدول العربية، وعبر وزارات خارجيتها، نعت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بشكل مباشر، وأدانت الجريمة وحملت الكيان المحتل المسؤولية الكاملة عن هذا التصعيد، مطالبة بمحاسبة حكومة الاحتلال على هذا الانتهاك السافر للقانون الدولي والإنساني.
قطر.. قالت في بيان للخارجية إنها تدين “بأشد العبارات اغتيال هنية في طهران”، واعتبرته “جريمة شنيعة وتصعيدًا خطيرًا”، فيما أكد وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في منشور على “إكس” أن “نهج الاغتيالات السياسية والتصعيد المقصود ضد المدنيين بغزة في كل مرحلة من مراحل التفاوض، يدفع إلى التساؤل كيف يمكن أن تجري مفاوضات يقوم فيها طرف بقتل من يفاوضه في الوقت ذاته؟”.
سلطنة عمان.. استنكرت بشدة اغتيال هنية، معتبرة في بيان لخارجيتها أن هذه الجريمة تعد “انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والإنساني، وتقويضًا واضحًا لمساعي تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة”.
الكويت.. أعربت في بيان للخارجية عن إدانتها للعملية واغتيال هنية، معربة عن “قلقها البالغ إزاء ما أقدم عليه الكيان الإسرائيلي من عمل إجرامي وغير مسؤول”، مؤكدة في الوقت ذاته على أن “ذلك السلوك العدواني يعتبر تطورًا خطيرًا وانتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الدولي وأهمها احترام سيادة الدول المستقلة”.
الأردن.. أدانت المملكة في بيان للخارجية “بأشد العبارات اغتيال إسماعيل هنية”، متهمة “إسرائيل” بارتكاب تلك العملية، مؤكدة على أن ذلك يمثل “خرقًا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني” فيما كتب وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، منشورًا على “إكس”، قال فيه: “ندين بأشد العبارات اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية رحمه الله”، معتبرًا ذلك “جريمة نكراء وخرقًا فاضحًا للقانون الدولي”.
العراق.. أدان في بيان له اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، معتبرًا تلك العملية العدوانية “انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية وتهديدًا للأمن والاستقرار في المنطقة”، داعيًا المجتمع الدولي إلى “تحمل مسؤولياته واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف الاعتداءات المتكررة وانتهاك سيادة الدول”.
لبنان.. أدان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، اغتيال هنية، قائلًا: “ندين بقوة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، ونرى في هذا العمل خطرًا جديًا بتوسّع دائرة القلق العالمي والخطر في المنطقة”، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية.
الجزائر.. أدان وزير الخارجية أحمد عطاف، جريمة الاغتيال التي وقعت في طهران، قائلًا في مؤتمر صحفي بالعاصمة: “ندين بشدة هذه العملية الإرهابية الغادرة والشنيعة التي أقدمت عليها قوات الاحتلال الصهيوني (إسرائيل)”، محذرًا من محاولات إسرائيلية لإدخال المنطقة في “دوامة الحروب”.
إعراب عن القلق.. لا نعي
وعلى الجانب الآخر هناك بعض الدول تجنبت إدانة استهداف إسماعيل هنية بشكل مباشر، مكتفية في بيانات لها بالإعراب عن القلق من تصاعد التوتر في المنطقة وتداعيات ذلك على أمن واستقرار الإقليم، وتزعم هذا التوجه الدول المطبعة مع دولة الاحتلال، الإمارات والبحرين ومصر.
الإمارات.. في بيان لخارجيتها قالت إنها “تراقب عن كثب التطورات الإقليمية المتسارعة، وتعرب عن قلقها العميق إزاء استمرار التصعيد وتداعياته على الأمن والاستقرار في المنطقة”، مضيفة أنها “تؤكد أهمية ممارسة أقصى درجات ضبط النفس والحكمة لتجنب المخاطر وتوسيع رقعة الصراع”.
البحرين.. حذرت في بيان لوزارة الخارجية من “خطورة عمليات التصعيد في المنطقة وتداعياتها على الأوضاع الأمنية وزيادة حدة التوتر والعنف وتأجيج الصراع في منطقة الشرق الأوسط”، مؤكدة على “رفض العنف السياسي”، داعية “مجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى مساندة جهود دول المنطقة للحيلولة دون مزيد من التصعيد والتوتر وانعكاساته الخطيرة على الأمن والاستقرار الإقليمي”.
مصر.. أدانت في بيان لوزارة خارجيتها ما أسمته “سياسة التصعيد الإسرائيلية الخطيرة خلال اليومين الماضيين”، معتبرة “أن هذا التصعيد الخطير ينذر بمخاطر إشعال المواجهة في المنطقة بشكل يؤدي إلى عواقب أمنية وخيمة”، محذرة من مغبة سياسة الاغتيالات وانتهاك سيادة الدول الأخرى وتأجيج الصراع في المنطقة”، فيما طالبت “مجلس الأمن والقوى المؤثرة دوليًا، بالاضطلاع بمسؤوليتهم في وقف هذا التصعيد الخطير في الشرق الأوسط، والحيلولة دون خروج الأوضاع الأمنية في المنطقة عن السيطرة، ووضع حد لسياسة حافة الهاوية”.
الملاحظ في بيانات الدول الثلاثة أنها لم تتطرق بشكل مباشر إلى إدانة اغتيال هنية ولا نعيه بأي من صور النعي، بل تجنبوا حتى ذكر اسمه، علمًا بأن الجريمة وقعت بينما كان الرئيس الإماراتي محمد بن زايد في ضيافة نظيره المصري عبد الفتاح السيسي في مدينة العلمين الجديدة، شمال مصر، يتبادلان معًا الصور التذكارية مع رواد المدينة، دون أن يستدع ذلك عقد مؤتمر صحفي يدين فيه الزعيمان جريمة بهذا الحجم.
وفي المقابل أدان الأزهر الشريف في بيان له بأشد العبارات الجريمة البشعة التي أقدم عليها “الكيان المحتل الغادر باغتيال القيادي الفلسطيني إسماعيل هنية”، مؤكدًا أن “الشهيد المناضل قضى حياته في الذود والدفاع عن أرضه وعن قضية العرب والمسلمين قضية فلسطين الحرة الصامدة، كما يؤكِّد الأزهر أن مثل هذه الاغتيالات لن تنال من عزيمة الشعب الفلسطيني المناضل الذي قدم – ولا يزال يقدم – تضحيات عظيمة لاستعادة حقوقه في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس”.
وتقدم الأزهر “بخالص التعازي والمواساة للشعب الفلسطيني، وإلى أسرة الشهيد المناضل، سائلًا المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يُلهم أهله وأسرته المزيد من الصبر والسلوان”، وهو البيان الذي وصفه المصريون بـ”بيان حفظ ماء الوجه” بعدما تجاهل بيان الخارجية نعي هنية بشكل واضح.
السعودية والمغرب: صمت القبور
هناك قسم ثالث لم تصدر عنه أي مواقف تذكر بشأن تلك الجريمة التي هزت المنطقة بأسرها، رغم ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات ربما تقلب الطاولة على الجميع وتُدخل الكل في حرب مفتوحة لن ينجو منها أحد.
هذا القسم يمثله مطبعون وعلى أعتاب التطبيع مع الكيان المحتل، في مقدمتهم السعودية التي لم يصدر عنها أي بيان أو تصريح أو موقف يتعلق بالجريمة، ومنها الإدانة الدبلوماسية التي التزم بها الجميع، بما فيها حلفاء “إسرائيل”.
كذلك المغرب، الدولة المنخرطة في حظيرة التطبيع رسميًا، إذ التزم هو الآخر الصمت، فيما أدان الحزبان المعارضان: “العدالة والتنمية” و”التقدم والاشتراكية” الجريمة، واصفين إياها في بيانين منفصلين بـ”العملية الإرهابية”.
اللجان الإلكترونية وتبرير الانبطاح
الغريب أن الدول التي التزمت الصمت أو تلك التي لم تنع هنية بشكل مباشر، لم تكتف بهذا الموقف المتخاذل فقط، بل سلطت جيوشها الإلكترونية من أجل تبرير هذا الانبطاح المخز بالنهش في جسد الشهيد، وذلك من خلال 3 سرديات أساسية:
الأولى: قتل جنود رفح.. حيث عزف فريق من اللجان الإلكترونية على تشويه صورة هنية وحماس بصفة عامة من خلال الزعم بتورطه في قتل عدد من الجنود المصريين في مدينة رفح الحدودية عام 2012، حيث روجت اللجان لمحادثة هاتفية مزيفة بين الرئيس المصري الراحل محمد مرسي وهنية تشير إلى تورط حماس في قتل الجنود المصريين، وهي المحادثة التي كشفت عشرات المواقع كذبها وتلفيقها.
الثانية: الموالي لإيران.. السردية الثانية التي يعزف عليها الخليجيون تحديدًا لتشويه صورة المقاومة وحماس، علاقتهم بطهران، حيث اتهام هنية بأنه أحد حلفاء النظام الإيراني، وينفذ الأجندة الإيرانية في المنطقة، وهي السردية التي رُوج لها منذ بداية حرب غزة.
الثالثة: ربيب الفنادق المتاجر بالقضية الفلسطينية.. أما السردية الثالثة الأكثر انتشارًا لتشويه صورة قادة المقاومة، لتبرير خذلان الأنظمة العربية لهم، فاتهامهم بالمتاجرة بالقضية والتضحية بالشباب الفلسطيني، فيما يقيمون هم بالفنادق خارج البلاد، وهي السردية التي نسفها هنية باستشهاد أبنائه وأحفاده، ثم استشهاده هو شخصيًا بعد ذلك.
الملاحظ هنا أن تلك السرديات الثلاثة وغيرها من السرديات الأخرى قد تم اعتمادها رسميًا من اللجان الإلكترونية المدارة من عدد من الأنظمة العربية المعروفة منذ بداية حرب غزة قبل عشرة أشهر، حيث عزفت على وتر التشكيك في قدرة المقاومة على الصمود، وتبني الروايات الإسرائيلية على حساب الروايات الفلسطينية.
مواقف مخزية.. ما الأسباب؟
بعيدًا عن الفجوة الأيديولوجية بين المقاومة كفكر والأنظمة العربية الكارهة لها، وسعي الأخيرة للتخلص من الأولى بشكل أو بآخر، فإن التزام بعض الحكومات الصمت إزاء اغتيال هنية وعدم نعيه بتلك الصورة المخزية، يعود إلى 3 مقاربات أساسية تهيمن على عقلية من يجلس على كرسي السلطة في تلك البلدان:
أولًا: القلق من إغضاب الحليف الإسرائيلي.. الدول التي لم تعلق على تلك الجريمة، والأخرى التي اكتفت ببيانات فضفاضة لم تتضمن نعيًا لهنية، جميعها يرتبط بعلاقات جيدة مع الكيان الإسرائيلي، إما عبر التطبيع الرسمي كمصر والمغرب والإمارات والبحرين وإما غير الرسمي كالسعودية، ومن ثم فهي لا تريد إغضاب حليفها بنعي الرجل الأول في المقاومة والذي وضعه المحتل على قائمة أهدافه من تلك الحرب.
ثانيًا: التهرب من مسؤولية الضلوع في عملية الاغتيال.. يعلم الجميع أن ما جرّأ نتنياهو وحكومته على هذا التغول سوى الاطمئنان الكامل بشأن رد الفعل العربي، والانبطاح المخزي للحكومات والأنظمة العربية التي منحت جيش الاحتلال – بصمتها – الضوء الأخضر لارتكاب العديد من الانتهاكات ومن بينها اغتيال إسماعيل هنية.
ومنذ بداية الحرب ويتعرض الموقف العربي المنبطح إلى انتقادات لاذعة كونه شريكًا أساسيًا فيما يتعرض له سكان غزة من قتل وتنكيل وتجويع، في ضوء تقاعسة عن استخدام أي من أوراق الضغط التي بحوزته ضد “إسرائيل”، والتزام الصمت وتبني السردية الإسرائيلية وشيطنة المقاومة.
ثالثًا: التنصل من الالتزامات التي تفرضها تداعيات العملية.. لا شك أن جريمة كتلك لا بد أن يكون لها تداعيات أو رد فعل رادع للاحتلال، يمنعه من تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تغير قواعد الاشتباك في المنطقة، وهو ما تعلمه الأنظمة العربية جيدًا، وعليه فإن نعي هنية والتنديد بتلك الجريمة يتطلب ردًا وموقفًا حازمًا، وهو ما لا تريده تلك الحكومات المنبطحة، أو بالأحرى لا تقدر عليه لحسابات ومقاربات خاصة بحكامها وأنظمتها بشكل شخصي.
وهكذا تكشف حادثة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، النقاب عن فصل جديد من الانهزامية العربية، والخذلان الذي بات سمتًا عربيًا خالصًا، في الوقت الذي يعلن فيها حلفاء الاحتلال دعمهم الكامل له في جرائمه وانتهاكاته، دون أي اعتبارات أو حسابات.
المصدر: نون بوست