ما بعد “الطوفان”.. أزمة وجودية داخلياً وخارجياً تهدد إسرائيل
تتعدى المسألة معالجة تداعيات محرقة الهولوكوست وما ارتكبه الغرب بحق اليهود على مر قرون طويلة. وُضع المشروع الصهيوني على الطاولة منذ القرن التاسع عشر. هناك عاملان مباشران وراء إنشاء الكيان المُسمى "إسرائيل". الأول، المجازر التي ارتكبها النظام النازي في ألمانيا بحق اليهود. الثاني، إنشاء قاعدة عسكرية وسياسية متقدمة للغرب في الشرق الأوسط إسمها "إسرائيل".
Table of Contents (Show / Hide)
يعتبر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أن الدعم الغربي لإنشاء الكيان الإسرائيلي كان وراءه عاملان. العامل الأول، ان الدول الغربية كانت تريد التخلص من اليهود وكان لهذا العامل أيضاً دوافع دينية.
يعتبر بابيه أن السبب الذي دفع بلفور لإعطاء وعد للحركة الصهيونية بإنشاء كيان لها في فلسطين هو خوفه من هجرة مئات الآلاف من اليهود من روسيا إلى بريطانيا مع بداية القرن الماضي، علماً أن بلفور كان معادياً للسامية ولليهود. كما أن العقيدة الإنجيلية لدى العديد من المسيحيين في الغرب كانت تدفع نحو إنشاء هذا الكيان لأنه سوف يساعد في تسريع العودة الثانية للسيد المسيح، حسب معتقداتهم الدينية.
أما العامل الثاني، بحسب إيلان بابيه، فهو انشاء قاعدة عسكرية وسياسية متقدمة للغرب للحفاظ على مصالحه خصوصاً بعد انسحاب قوات الاحتلال الأجنبية من المنطقة وانتهاء عصر الانتداب العسكري المباشر. لا شك أن إسرائيل هي عبارة عن جيش لديه دولة وليست دولة-أمة بمعناه الحديث (وعندها جيش كما باقي المؤسسات).
لم يكن هناك شعب يملك هوية وطنية جامعة وتاريخاً مشتركاً من النضال والتحرر حتى يُنشىء دولة تلبي طموحاته خصوصاً أنهم ليسوا من سكان البلاد الأصليين.
يذكر بابيه في كتابه “التطهير العرقي لفلسطين” أن اليهود كانوا يملكون حوالي 5.8 % من أراضي فلسطين عام 1948. لذلك، وضعوا عدة خطط للهيمنة على الأراضي الفلسطينية أبرزها “خطة دالت” التي أدت إلى تهجير سكان مئات المدن والقرى الفلسطينية بالقوة. الأمن ركيزة أساسية أتى المستوطنون اليهود من جميع أصقاع العالم ومن مختلف العرقيات واللغات، وبما أن هذا الكيان قد أنشىء على أرض فلسطينية عربية وتم تهجير سكانها بالقوة، فقد سكن القلق نفوس المستوطنين مخافة تهديد أصحاب الأرض الأصليين، لذلك، كانت إستمرارية الكيان مرتبطة ببناء جيش قوي وظيفته زرع الطمأنينة في نفوس المستوطنين وإبعاد أي تهديد عنهم.
لذلك نُلاحظ هيمنة الجيش على كل مفاصل الدولة، ولا سيما الإعلام، فهو حريص على عدم نشر أي معلومة قد تؤثر على ثقة الشارع به، كما يحصل حالياً عندما تمنع الرقابة العسكرية وسائل الإعلام من نشر معلومات صحيحة عن أعداد القتلى من الجيش الإسرائيلي في معارك غزة والحدود الشمالية مع لبنان.
هذه الثقة بين الجيش والمستوطنين جاءت نتيجة عمل تراكمي ونجاحات عسكرية في مواجهة العرب استمرت لسنوات طويلة بينها معركة 1948 التي استطاعت فيها إسرائيل هزيمة الجيوش العربية وتثبيت نفسها دولة قوية في قلب العالم العربي، وجاءت نكسة عام 1967 لكي تُعزّز قوة الردع لدى جيش صار يتباهى بأنه هزم ثلاثة جيوش عربية،
واستطاعت إسرائيل في حرب أكتوبر 1973 أن تتجاوز ذلك الإمتحان بمساندة غربية، إذ أن الجيوش العربية كانت قد حقّقت إنجازات كبيرة وبينها تحرير جزء من سيناء والجولان في بداية المعركة قبل أن تنقلب الأمور بقرار مصري كان مُنسقاً مع الأميركيين.
في محصلة هذه الحروب، تضاعفت ثقة المستوطنين بإسرائيل وراحت بعد ذلك تُكرّس معادلة خوض الحروب خارج حدودها، الأمر الذي ضاعف ثقة المستوطنين بجيشهم الذي لا يُقهر.
ولكي تُعزز عامل الثقة والاطمئنان لدى المستوطنين، سعت إسرائيل بشكل حثيث إلى توقيع اتفاقيات تطبيع (سياسي واقتصادي وأمني) مع الأنظمة العربية. غير أن الوظيفة الأمنية للتطبيع غلبت ما عداها، وذلك لجهة توفير بيئة آمنة على مستوى الإقليم تحفظ استمرارية الكيان وتُشعر المستوطن بالأمان، ما يؤدي إلى تخفيف الضغط عن الجيش الإسرائيلي ومن اتكال الدولة العبرية على الغرب لحمايتها وبالتالي تعزيز قدرتها على استقطاب المزيد من يهود العالم إليها.
لقد ذهبت إسرائيل أبعد من ذلك. كان الأميركيون في السنوات الأخيرة ينصحون الحلفاء العرب في المنطقة بأنكم تريدون من يحميكم من “البعبع الإيراني”. إذاً لا بد من التطبيع مع إسرائيل.
تريدون إقتصاداً قوياً. تريدون تكنولوجيا. تريدون تطوير مشاريع الطاقة. وقّعوا إتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. معركة “طوفان الأقصى” لا شك أن معركة “طوفان الأقصى” ضربت هذه الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني:
أولاً؛ استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تدخل المستوطنات الإسرائيلية في “غلاف غزة”، وهذا لم يحدث في تاريخ هذا الكيان، وهذه العملية تعتبر أكبر ضربة أمنية واستخباراتية تتلقاها إسرائيل منذ نشأتها، ما أدى إلى ضرب الثقة بالجيش الإسرائيلي وقدرته على حماية المستوطنين.
ثانياً؛ أتت هذه العملية في ذروة التطبيع بين إسرائيل وبين الدول العربية، ولا سيما غداة الإعلان عن “الممر الهندي” وإعلان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إستعداده للتطبيع بين بلاده وإسرائيل. هذا المناخ كان يشي ليس بتراجع التهديد الوجودي بل تحول إسرائيل الضامن الأول لأمن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مستقبلاً!
ثالثاً؛ اختيار توقيت العملية كان موفقاً، فالدول الغربية مشغولة بالحرب في أوكرانيا، وهذا ما كان واضحاً عندما أعلنت واشنطن أنها لا تريد أن تتحول المعركة في غزة إلى صراع إقليمي لأنه سيكون مُكلفاً اقتصادياً وعسكرياً وسوف يشتت تركيزها في جبهات أخرى مع كل من روسيا والصين. المفارقة أن المعركة في غزة صبّت في مصلحة موسكو. لعل أبرز دليل على ذلك ان الموقف الروسي من معركة “طوفان الأقصى” كان فاتراً لا بل أن موسكو استقبلت في الأيام الأولى للعملية وفداً قيادياً من حركة حماس، ما أغضب تل أبيب. في المحصلة تراجع الاهتمام الغربي بالحرب الأوكرانية ـ الروسية وبدأت الدول الغربية بتوجيه جزء كبير من دعمها المالي والعسكري لإسرائيل.
إن هذه المعركة الجارية على أرض فلسطين لم تفقد عامل الثقة بين المستوطن والجيش فقط، بل جعلت الغرب نفسه يشعر بتهديد وجودي لكل منظومة المصالح التي أقامها في المنطقة على مدى 75 عاماً، ومن الواضح أنه كلما ضعفت الثقة ما بين المستوطن والجيش وكلما تراجعت قدرة الغرب على توفير الحماية، سوف يصبح وجود الكيان الصهيوني مُهدداً.
في المحصلة، إسرائيل تواجه أزمة وجودية بكل معنى الكلمة نتيجة الضربة الاستخبارية والأمنية التي تلقتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهذا ما يُفسر قرار تدمير قطاع غزة وحرب الإبادة التي تخوضها ضد الشعب الفلسطيني، بهدف “كي الوعي” عند الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب العربية، حتى لا يتجرأ أحد منهم مستقبلاً على مجرد التفكير باعادة تكرار سيناريو السابع من أكتوبر 2023.
عباس عاصي
المصدر: المنار المقدسية