كيف قد يؤثر ذلك على رمز الهيمنة الأمريكية.. الصين والبرازيل تتخليان عن الدولار
الصين والبرازيل اتفقتا على التخلي عن الدولار الأمريكي في التبادل التجاري بينهما واستبداله بعملتَيهما المحلية، اليوان والريال، فما مدى تأثير تلك الخطوة على وضع رمز الهيمنة الأمريكية عالمياً؟
Table of Contents (Show / Hide)
الاتفاق بين الجانبين جاء خلال منتدى الأعمال الصيني – البرازيلي، وهو اجتماع رفيع المستوى استضافته بكين الأسبوع الماضي، ورغم تأجيل الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، زيارته إلى بكين لأسباب صحية، إلا أن ذلك لم يمنع التوقيع على هذا التحول المالي بين البلدين.
هل يؤثر اتفاق البرازيل والصين على الدولار؟
الدولار الأمريكي هو العملة المعتمدة في معظم الحركات التجارية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يمثل الرمز الأبرز للهيمنة الأمريكية ويعطي الاقتصاد الأمريكي ميزة هائلة، لأنه يطبع الأوراق النقدية المستخدمة في التجارة الدولية، مما يعطي واشنطن ورقة ضغط لا تتوفر لأي دولة أخرى.
ولأن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الاقتصاد الأكبر، والدولار هو أكثر العملات تداولاً حول العالم، لا يقتصر تأثير رفع سعر الفائدة الأمريكي على الاقتصاد المحلي والمواطنين الأمريكيين فحسب، بل يمتد تأثيره إلى جميع دول العالم، وبالتالي على حركة الاقتصاد العالمي ككل.
وفي ظل التنافس الشرس بين الولايات المتحدة والصين، أو صراع القوى العظمى بشكل أكثر دقة، تسعى بكين بطبيعة الأمور إلى تجريد واشنطن من سلاحها الاقتصادي الأبرز، وذلك من خلال سلسلة من الاتفاقيات تهدف إلى التعامل بالعملات المحلية بدلاً من العملة الأمريكية، وتستمر الصين بضم المزيد من الدول إلى دائرة البلدان المتعاملة باليوان والعملات المحلية في التجارة الخارجية.
وفي هذا السياق، فإن الصين والبرازيل تلعبان أدواراً مهمة في شكل السوق العالمي، فالصين هي صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، بينما البرازيل تعتبر أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية.
وهذا الاتفاق هو الأول من نوعه الذي تعقده الصين مع إحدى دول أمريكا اللاتينية، لا سيما أن بكين هي الشريك التجاري الأكبر للبرازيل، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما نحو 150 مليار دولار العام الماضي (2022).
وقالت الوكالة البرازيلية للترويج للتجارة والاستثمار (أبيكس برازيل)، في بيان، إن "هناك توقعات بأن هذا سيخفض التكاليف ويعزز التجارة الثنائية أكثر ويسهل الاستثمار"، علماً أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر للبرازيل.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة ليست جديدة في حد ذاتها، إذ عقد بالفعل اتفاقيات كثيرة بين الدول للتعامل فيما بينها بالعملات المحلية، إلا أن حجم اقتصاد الصين والبرازيل يضفي مزيداً من الأهمية على هذه الخطوة.
وهذا ما عبر عنه الباحث في الشأن الاقتصادي أنور القاسم لموقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، قائلاً: "إن الاتجاه نحو التخلي عن الدولار ليس جديداً في دول العالم، إذ سبقته إجراءات مماثلة بين دول عدة خلال السنوات الماضية، لكن الجديد في القرار الصيني – البرازيلي، هو أنه يأتي بين دولتين كبيرتين اقتصادياً، ما يعني أنه خطوة إضافية نحو إحداث تغيير في آليات التعامل الاقتصادي".
كما أن البرازيل والصين تمثلان ضلعين هامين في تكتل بريكس، الذي يضم أيضاً روسيا والهند وجنوب إفريقيا، وهم يمثلون مجتمعين أكثر من ثلث حجم الاقتصاد العالمي تقريباً، واستمرار التخلي عن الدولار في التبادلات التجارية بين دول ذات اقتصاديات قوية من شأنه أن يؤثر على حصة التعاملات بالدولار الأمريكي في التجارة الدولية بطبيعة الحال.
هل يمكن التخلي عن الدولار الأمريكي؟
المحلل الاقتصادي فهمي الكتوت يرى أن اعتماد الدول على عملاتها المحلية يعزز من اقتصادها ويساعدها على تخفيف تكلفة التبادل التجاري فيما بينها، لكن في الوقت نفسه، فإن الوصول لهذه المرحلة من التخلي عن الدولار يحتاج إلى إجراءات وسياسات تتطلب وقتاً طويلاً.
وربما لهذا السبب قلل المحاضر في جامعة جورج واشنطن، عاطف عبد الجواد، من الآثار الاقتصادية للاتفاق الصيني-البرازيلي، حيث قال لـ"بي بي سي" إن "60% من دول العالم لا تزال تستخدم الدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي في بنوكها المركزية. بالإضافة إلى أن التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية والمؤسسات المالية التابعة للأمم المتحدة جميعها تعتمد على الدولار الأمريكي، ما يؤشر على القوة المالية والنقدية التي يتمتع بها الدولار ومن خلفه الولايات المتحدة".
وبالتالي فإنه بالنظر إلى عدد الدول التي لا تزال تستخدم الدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي في بنوكها المركزية، فإن القرارات باعتماد العملات المحلية في التجارة البينية بين بعض الدول سيكون قصير المدى، ولا يمكن أن يتأثر به الدولار الأمريكي، وفق عبد الجواد.
فعلى الرغم من أن البرازيل تشكّل نقطة محورية في حجم التبادلات التجارية، إلا أن مثل هذه الخطوات بين الصين والبرازيل لن تكون حاسمة في الوقت الحالي فيما يخص الأثر على الولايات المتحدة، بحسب الكتوت، الذي يضيف أن الاتفاق البرازيلي الصيني الحالي يشكّل خطوة تراكمية لما تم تحقيقه خلال السنوات الماضية من حيث الابتعاد عن التعامل بالدولار.
واتخذت العديد من الدول في العالم خطوات مشابهة في السنوات الماضية، حيث أعلنت البرازيل والأرجنتين استعدادهما لإطلاق عملة مشتركة بينهما تشبه اليورو. كما تعمل روسيا وإيران معاً على إنشاء عملة مشفرة مدعومة بالذهب لاستخدامها في التجارة العالمية. كما وقّعت الإمارات والهند اتفاقية تجارة حرة في العام الماضي بهدف زيادة المعاملات غير النفطية مع طرح فكرة إجراء تجارة غير نفطية باستخدام الروبية.
ويصف أنور قاسم كل إجراء يتم فيه التحول عن الاعتماد على الدولار بأنه يزيد من الأعباء الاقتصادية الأمريكية، دون أن يؤثر عليها الآن بشكل مباشر، لكن سيسحب منها القوة الاقتصادية، والوزن السياسي مستقبلاً.
لكن عبد الجواد لا يتفق مع هذا التحليل، ويؤكد أن الخسائر الأمريكية من تلك الاتفاقيات ستكون ضئيلة للغاية، وسرعان ما سيتم التراجع عن هذه القرارات من قبل الدول التي لن تتمكن من الاستمرار في هذا النهج.
ويعتقد الكتوت أن الصين لا تفكر في إضعاف الاقتصاد الأمريكي، لكنها تريد أن تلعب دوراً في تقليل من هيمنة الدولار، ودفع الولايات المتحدة نحو القبول بشراكة في هذا المجال، للوصول لصيغ اقتصادية ومالية جديدة، عبر الضغوط التي تمارس من قِبل بكين وروسيا.
أما سياسياً، فيقول عبد الجواد إن هناك محاولات تتزعمها دول الصين وروسيا منذ فترة لإسقاط دور الدولار الأمريكي كرائد في التجارة العالمية، ويعود السبب لرغبة الدولتين في إضعاف هيمنة الولايات المتحدة على العالم سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، ضمن السعي لخلق نظام عالمي متعدد القطبية لا تتبوأ فيه الولايات المتحدة مركز الصدارة أو الهيمنة.
متى يمكن أن يفقد الدولار هيمنته عالمياً؟
تشير الأرقام إلى أن الدولار الأمريكي قد فقد بالفعل جزءاً من حصته الكاسحة في المعاملات التجارية العالمية، ففي مارس/آذار 2022، نشر باري إيتشنغرين، المؤرخ الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا بحثاً أشار إلى انخفاض وجود الدولار في احتياطات بالبنوك المركزية من 71% عام 1999 إلى 59% عام 2021، أي أن الدولار فقد تقريباً 12% من حصته خلال عقدين تقريباً.
لكن السرعة التي تتحول بها كثير من دول العالم عن الدولار وتستبدله بالعملات المحلية الأخرى في تعاملاتها التجارية، هي أيضاً سرعة غير مسبوقة في حقيقة الأمر؛ إذ أعلنت وزارة الخارجية الهندية، الأسبوع الماضي، أنّ الهند وماليزيا ستستخدمان الروبية الهندية في التعاملات التجارية بين البلدين، بعد سماح بنك الاحتياطي الهندي بتسوية التجارة الدولية بالعملة الوطنية.
وقالت الخارجية الهندية في بيانها: "يمكن الآن تسوية التجارة بين الهند وماليزيا بالروبية الهندية، إضافة للتبادلات الحالية القائمة على عملات أخرى".
لكنّ كثيراً من المحللين يعتقدون أنه لا يوجد خطر على الدولار في المدى القصير وربما المتوسط أيضاً، ذلك لأن العملة الخضراء لا تزال متجذرة في التعاملات بين دول كثيرة في العالم، وتدخل في مفاصل اقتصادية كثيرة.
لكنْ هناك إجماع على أن ما يحدث يمثل بداية وقد تنضم دول أخرى، وهو ما سيمثل قلقاً بالنسبة للأمريكيين بطبيعة الحال، خصوصاً إذا ما اتفقت دول مجموعة بريكس على تعميم الاتفاق البرازيلي الصيني فيما بينهما، أي أن تكون جميع التعاملات التجارية بينها بالعملات المحلية وليست بالدولار.
ويصف الكتوت المرحلة الحالية بالمرحلة الانتقالية حتى يتم ترسيخ نظام عالمي جديد متعدد القطبية اقتصادياً وسياسياً، من أجل الوصول لصيغة جديدة تعيد النظر بدور الدولار، وتتوصل لاتفاقيات حول عملات جديدة أو سلة عملات أو عملة مدعمة من خلال البنك الدولي، لكن بعد تعديل نظامه بحيث يكون هناك مساهمة لكل الأطراف القوية اقتصادياً، وبحيث يصدر عن البنك عملة جديدة وتكون هذه العملة من صلاحية هذه المؤسسة وليست من صلاحية دولة.
وربما يكون هذا الصراع الجيوسياسي المشتعل حالياً بين واشنطن وبكين هو الشق السياسي الظاهر لحرب العملات المشتعلة حالياً والهادفة إلى التخلص من الدولار الأمريكي وسيطرته على التجارة والاقتصاد حول العالم.
المصدر: العربي الجديد